مجلس التصفيق والدبكة
قد يَظُنُّ ظانٌّ أن المعارضة السورية قد أطلقتْ على مجلس الشعب لقبَ مجلس التصفيق والدبكة بقصد الإساءة للنظام، وللمؤسسات التي يَحْكُمُ البلادَ من خلالها. ولعل من أقوى هذه المؤسسات وأخطرها مجلس الشعب، ويكفينا للتدليل على خطورته القولُ إنه أصدر، في سنة 1980، القانون رقم 49 الذي يقضي بإعدام كل منتسب لجماعة الإخوان المسلمين. وبموجب هذا القانون، صَفَّى النظامُ ما لا يقل عن مائة وخمسين ألف إنسان من معارضيه، بعدما ألصق بهم تهمة الانتساب للجماعة.
يكاد التصفيقُ أن يكون الشيءَ الأبرزَ في مسيرة مجلس الشعب، فهو يبدأ حينما يدخل أحدُ قادة المجموعات الأمنية المنتشرة حول المبنى، مسرعاً، ويهمس لرئيس المجلس بكلامٍ يجعله يشرئب ويقفز عن كرسيه، كمن طُلِيَتْ مؤخرتُه، على حين غرة، بالنشادر. ويقول للأعضاء: يا شباب السيد الرئيس وصل. فتهبّ، كما يقول مراسلُ إذاعة دمشق، عاصفةٌ من التصفيق، ويحدثُ هرجٌ ومرجٌ، ويقع الأعضاء في حَمْحَمة وحيص بيص، ويتدافعون، عشوائياً، نحو الباب، ويصطفون على جانبيه، ليقابلوا ذلك الرجلَ المُؤَلَّهَ بعاصفة أخرى من التصفيق، تَرْتَجُّ لها الأبنيةُ القريبة من المجلس في حيي الصالحية والشُّهَدَا.. وقلما يمر دخولٌ للأسد إلى المجلس، من دون أن تمتد أيدي بعض الأعضاء، مخترقةً الحراسةَ المشددة، لتلمس جسدَه، وتتبرّكَ به، وليتفاخر العضوُ الذي حظي منه بلمسةٍ، أمام أهله ومعارفه، فيما بعدُ، بأنه لم يكتف بالتصفيق للسيد الرئيس، بل إنه لمسه، لمسَ اليد.
كان التصفيق يسبق حافظ الأسد في أثناء استعداده لإلقاء كلمته التاريخية، وكان يحصل، بينه وبين الأعضاء، نوعٌ من المشاكسة، فكلما قال (أيها الإخوة المواطنون) ينفلتُون بالتصفيق، ويتمادون به، طويلاً، إلى أن يستحوا، أخيراً، على أنفسهم، ويُفسحوا له المجال للكلام، متوعدين إياه بمزيدٍ من التصفيق، في وقت لاحق. وكانت هذه المقاطعةُ، وهذه المشاكسةُ، تتكرّران كلما رَفع هو من وتيرة قول الكلام المهم، علماً بأنه لا يوجد في خطاباته شيء غير مهم.
كانت الأجهزة المخابراتية الجبارة التي أسسها حافظ الأسد، وجعلها العمودَ الفقري لنظامه، تشبهُ العمودَ الفقري للإنسان، من حيث أنها غير مرئية للعيان. وكانت، في أيام التظاهرات التي تُقام من أجل تأليه الأسد وعبادته، تتولى تحريك المؤسسات البعثية، والجَبْهَوية، والشخصيات الطفيلية التي تتغذّى في ظل هذا النظام، فتأمرها بنصب سرادق للأفراح والليالي الملاح، في الشوارع والساحات، شريطة أن يستكري كلُّ واحدٌ منهم، على حسابه، مجموعةً من الطبالين والزمارين، وفرقة للدبكة الشعبية، ويبدأ باستضافة أعضاء الفعاليات الحزبية والشعبية والأهلية الذين يأتون على هيئة مجموعاتٍ صغيرة، وما إن ينزلوا من سياراتهم، حتى يدعوهم صاحبُ السرادق للدبكة في هذا العرس الجماهيري العظيم، فيدبكون بلا أدنى تردد.
في أيام الوريث بشار، وبالأخص مع بداية الاستفتاء الرئاسي الثاني الذي صادف في سنة 2007، خرج العملُ المخابراتي من الخفاء إلى العَلَن، وبدأت الأفرعُ والمفارزُ الأمنية تقيم احتفالاتها في الساحات الخاصة بها، فلا يعدمُ المرءُ أن يرى اثنين من أهل البلد، جالسين في مقهى شعبي يتجاذبان أطراف الحديث عن نشاطهما النهاري، فيقول أحدُهما إن ساقيه تؤلمانه من كثرة ما دَبَك. يسأله رفيقه: أين؟ فيقول إنه، ورفاقه في المنظمة الشعبية التي يعملون فيها، دبكوا صباحاً في أمن الدولة، وبعد الظهر في الأمن الجوي، وعصراً في الأمن العسكري،.. ومن الأمن السياسي، في بداية السهرة انتقلوا إلى فرع الحزب، لكنهم، وخلافاً للعادة، لم يجدوا فيه أيَّ نوع من الدبِّيكة.
وأما نشاط مجلس الشعب، فكان، قبل هذا، يقتصر على التصفيق وإلقاء زجليات يرتجلُها بعض الأعضاء، إلى أن قامت الثورة في أواسط شهر مارس/آذار 2011، وبدأ الناس ينتظرون خطاب الرئيس الوريث، ووقتها، على وجه التحديد، أصبحت الدبكة شيئاً أساسياً في نشاط هذا المجلس الموقر.
وللحديث صلة.