محاولات اختطاف الحالة الدينية المصرية
ينشغل المستبدّون خلال فترات استيلائهم على الحكم بمسألتين: القمع وتزييف الوعي. وإذا تعذَّر التزييف تأتي عمليات أخرى، كتشويه الوعي، أو تحجيم انتشار الأفكار التي لا تتوافق مع مصلحة فئة الحكم. ومعلومٌ أن مصادر الأفكار لدى المجتمعات تتعدّد بحسب إرثها التاريخي. وفي مصر تهيمن الثقافة الدينية على ذلك الإرث، فانشغل المستبدّون بمحاصرة المعنيين بالشأن الديني، وكذلك محاولات اختراقهم لاستقطاب عملاء للسلطة إزاء علماء ملتزمين بحدود النص الديني، وقواعده العلمية في التفسير.
هذا الصراع بين الاستبداد والإخضاع طبيعي في أي اجتماع بشري، واستقطاب المستبدّين مصادر التأثير العام طبيعي كذلك، واستجابة بعضهم أو نفور آخرين هو من ضروب العرض والطلب. يجري ذلك كله في إطار الاجتماع البشري، وهذا مفهوم، مع الانتباه إلى أن التفهُّم لا يعني القَبول بالضرورة، لكن ما لا يمكن قبوله أو فهمه استجابة من اختار أن تكون حياته في سبيل التطلُّع إلى الآخرة، إلى الانزلاق في مطامع الدنيا، وهو يدري أن الآخرة خيرٌ وأبقى، وقد أحسن الذين زيّنوا شعار الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين بقول الله: "الذين يبلّغون رسالات الله، ويخشونه، ولا يخشون أحدًا إلا الله، وكفى بالله حسيبًا".
فَهِمَ هؤلاء أن المُبلِّغين عن الله سيتعرّضون إلى الفتن والقمع، فجاءت الآية موضحة للسبيل بأن على السالك أن يخشى الله، ثم جاءت إلى صنفٍ آخر قد يكون يخشى ربه ويتَّقْه، لكنه يخاف من الخلائق أيضًا، فجاء التنبيه "ولا يخشون أحدًا إلا الله"، ثم جاءت الطمأنة للجميع بأن الله هو الحسيب أي الكافي، وهذه الآية ينبغي أن تزيِّن كل دار وهيئة دينية في العالم الإسلامي، ليتذكّر كل داعية إلى الله مهمّته أولًا، ومن يحميه من بطش الظالمين ثانيًا.
ما لا يمكن قبوله أو فهمه استجابة من اختار أن تكون حياته في سبيل التطلُّع إلى الآخرة، إلى الانزلاق في مطامع الدنيا، وهو يدري أن الآخرة خيرٌ وأبقى
نجد مقابل هذا الوضع الأساسي انحرافًا جسيمًا يتزعمه أربعة أشخاص في مصر، وزير الأوقاف، ومفتي الجمهورية، وأسامة الأزهري مستشار السيسي للشؤون الدينية، وقبلهم جميعًا المفتي الأسبق علي جمعة، صاحب اليد القاهرة في دار الإفتاء وحلقات التدريس بالجامع الأزهر الشريف. وتمثِّل الأخيرة مَفْرَخَة علمية أكثر تخصصًا في الدراسة الشرعية. وفي الجامع والدار هيْمَنَ جمعة على المفاصل وما دونها، ومن تابع الحالة العلمية الدينية في مصر في العقدين الأخيرين يجد من تولوا مناصب الدار أو رؤوس الحلقات من تلامذته القدامى أو الجُدد.
عقب انقلاب 3 يوليو (2013)، كانت هناك رغبة في ملء الفراغ الديني بعد غياب الإخوان المسلمين، وكانت تلك غاية للسلفيين، ومدّعي التصوُّف على السواء، فنحّى الزعيم الملهَم السلفيين، وأفسح المجال تمامًا لجمعة وتلميذه أسامة الأزهري، فضلًا عن سيطرة باقي التلاميذ على دار الإفتاء المصرية، فأصبحنا أمام خطاب ديني يمتزج بالسياسة وفقًا لرغبة الحاكم، لا وفقًا للأصول العلمية والضوابط الدينية، وأصبحت الخطابات الصادرة عن وزارة الأوقاف والدار لا تختلف عن خطابات المؤسّسات الأمنية، وكان الأنسب للتابعين الأمنيين أن يلبسوا غطاء الرأس الأمني بدلًا من العمامة التي يوقّرها المصريون.
تزامن ذلك مع استشعار الزعيم أنه عالم بكل الشؤون الدينية والدنيوية، فتحدّث في مسائل دينية مطالبًا بإقرارها، وتحدّث عن تجديد الخطاب الديني، وهو في الأصل لا يُحسن الخطاب الدنيوي، أو الإدارة الدنيوية، واستجاب لدعوته الذين يتطلّعون إلى نيل المكانة في النظام الاستبدادي، بينما وقف الأزهر وشيخُه أمام دعوة هذا المتطفّل على مائدة العلم والعلماء، فحاز خصومة ضئيل المعرفة والبنيان، واحترام عموم المصريين.
أصبح التراث الديني، بقوّته وتماسكه المنهجي، مهدَّدًا من المتطفلين أو علماء السلطان
كان قد سبق للملهَم قوله في فترة ترشُّحه للرئاسة عام 2014 "مفيش حاجة اسمها قيادة دينية تبقى موجودة، لأن المفروض أن رئيس الدولة مسؤول عن كل حاجة فيها حتى دينها (...) أنا مسؤول عن القيم والمبادئ والأخلاق والدين"، فهو يرفض وجود القيادة الدينية بما فيها شيخ الأزهر، كما يُفهَم من كلامه، ولذا تتكرّر عداوته له، لأنه يرفض الانصياع لمطالبه في الشِّق الديني، ولا يرضيه أن الأزهر يأخذ موقفًا عكسيًّا من سلوكه السياسي، فالسيسي يريد أن يبسط سيطرته على معاش المصريين ومعادهم.
أصبح خيار السيسي استصدار الفتاوى من الدار التابعة له، فأجاز فائدة البنوك، وأباح التصدّق على مشروعاته، وأصبحت أغلب دعواته محط اعتبار من الدار، وبالطبع من وزير الأوقاف الذي تُثار حوله شُبَه فساد، كما أصبح لمستشاره للشؤون الدينية خطابًا تحريضيًّا، ويسعى إلى التجهيل وتعميق الانقسام الاجتماعي، وهي الأدوار المعاكسة للعالم الديني. وفي النهاية أصبحت قيم المصريين وأخلاقهم مبثوثتين في صفحات الحوادث كل يوم، وتعطي أمارة واضحة لنتيجة اعتبار السيسي نفسه مسؤولًا عن كل شيء.
ترجع أزمة الحالة الدينية المصرية اليوم إلى أمرين: انشغال الحركات الأهلية بالصراع السياسي واستخدامهم النص الديني في هذا الصراع، فَعَلَ هذا الإخوان والسلفيون من قبل، واليوم يفعله مدَّعو التصوُّف. محاولات النظام السياسي أن يهيمن عليه باعتباره شأنًا عسكريًّا يخضع لإرادة الشؤون المعنوية والأجهزة الأمنية. ومع غياب قوة المجتمع المدني، وترك الساحة لمهاجمة الخطاب الديني من دون إتاحة مساحة مكافئة لمعارضة ذلك الهجوم، أصبح التراث الديني، بقوته وتماسكه المنهجي على مدار قرون، مهدَّدًا من المتطفلين أو علماء السلطان، وإذا غاب الشيخ أحمد الطيب، لا قدَّر الله، في هذه الظروف، فسوف تتضرر مكانة الأزهر في المجتمع المصري، باعتلاء أحد الأربعة المذكورين إلى منصب الشيخ، ولا ينبغي للأجهزة الوطنية أن تسمح بفقدان مصر آخر معاقل قوتها الناعمة.