محمود عبّاس: القوّة الناعمة
ماذا ينتظر محمود عبّاس الذي يحتقر مبدأ المقاومة ضد العدو بالسلاح من جمهور المقاومة، وهو يواري شهداءه الثرى؟ هل كان يتوّقع منهم أن يهتفوا باسمه ويصفّقوا لممثليه في الجنازة، وأن يُوّجهوا له عبارات الشكر والثناء؟
نزفت جنين دماءً كثيرة على مدار يومين من المقاومة الباسلة ضد الاقتحام الصهيوني، اكتفت خلالهما أجهزة سلطة محمود عبّاس الأمنية بالفرجة على تهجير المواطنين، فيما اكتفت الأذرع السياسية بكتابة بيانات مناشدةٍ واستجداء للعالم لكي يتدخّل، فيما راحت أذرعه الإعلامية تحارب بشراسةٍ ضد حركة حماس، وتستعدي سرايا القدس وبقية فصائل المقاومة عليها، وتتّهمها بالتربّح والاتجار بدماء الشهداء، والانخراط في صفقاتٍ سرّيةٍ مع العدو.
إسفافٌ في الأداء، وإسفافُ في الخطاب المعادي للمقاومة، لم يتوقّف منذ وصف محمود عبّاس شخصيًا المقاومة بالسلاح بأنها "حكي فاضي"، ثمّ سارت على دربه قياداتٌ في "فتح"، حتى وصل الأمر بأحدهم إلى الطعن في أمهات الشهداء كما فعل محافظ نابلس، اللواء إبراهيم رمضان، ووصفهن بالقول "شاذّات ترسل ابنها للانتحار، وتظهر للآخرين أنها المناضلة"، فماذا كان يتوّقّع مندوبو عباس في جنازة شهداء معركة لم يكونوا فيها ولا معها، من الجماهير غير الانفجار في وجوههم غضبًا والهتاف ضدهم، وطردهم من الجنازة؟
مشكلة السيد محمود عبّاس أنه يتصوّر دومًا أنه رئيس حزب استبدادي حاكم، وليس رئيسًا لسلطة مشروع تحرّر وطني يتسع لكلّ أشكال المقاومة بالسلاح وبغيره. ومعلومٌ طبعًا حال الأحزاب السلطوية في البلاد العربية، من استبدادٍ وفسادٍ وإزاحةٍ لكلّ من يعكر عليها صفو الاستمتاع بمزايا السلطة، وخصوصًا عندما تطول فترة هيمنتها على السلطة، من دون شرعيةٍ تأتي عبر انتخاباتٍ سليمةٍ يمارس فيها الشعب حقّه بالاختيار، ويزداد الوضع سوءًا وفسادًا عندما تكون هذه الجماعة الحاكمة محميةً بقوة العدو التاريخي لهذا الشعب، وهو الحاصل في علاقة الاحتلال الصهيوني بسلطة عبّاس، التي يعتبرها جزءًا من منظومته الأمنية.
لا يقاوم محمود عبّاس ولا يساعد على المقاومة، وكذلك يفعل رجال سلطته، مثل غاز ثاني أكسيد الكربون، عديم اللون والرائحة، ولا يشتعل أو يساعد على الاشتعال، أو يمكنك القول، من دون الوقوع في المبالغة أو التجنّي، إنّ السيد عبّاس والملتفين حوله يشبهون، إلى حد كبير، بارونات القوة الناعمة في مصر، إن تناولها أحد بكلمة صرخت إنه يستهدف الوطن في أعزّ ما يملك. وطوال الوقت تتصوّر أنها الحصن الأخير من حصون الأمن القومي، إن سقط فالوطن كلّه في خطر عظيم.
تمارس هذه القوّة الناعمة، طوال الوقت، ابتزازًا خشنًا للجميع، فهي فوق التقييم والنقد، ممنوع الاقتراب منها، دينيًا أو سياسيًا، أو مساءلتها على ما تفعله في المجتمع وقيمه، إذ تضع نفسها سلاحًا مهمًا في ترسانة النظام الحاكم، ومن ثمّ ترى نفسَها كتائب مقاتلة ضمن قوات السلطة، المسّ بها مسٌّ بالنظام نفسه، وبالوطن كلّه.
أوجد هذا التماهي الكامل مع السلطة لدى هذه القوة الناعمة نوعًا من الإحساس بأنّها محصّنة أمام كلّ نقدٍ ومساءلة، فهي التي تخوض الحرب ضدّ أعداء الوطن في الدراما التلفزيونية والسينمائية، وهذا يمكن تفهّمه، غير أنّ أفرادها يصلون إلى حالةٍ من الانفصال عن الواقع، فيتصوّرون أنهم ومن يجسّدون أدوارهم سواء، في الدور والمكانة والتقدير، وبالتالي، كلّ ما يصدر عنهم من آراء وسلوكيات، لا يقبل النقاش.
أخيرا، صدر عن قيادات هذه القوّة الناعمة بيانٌ مضحك، جاء فيه إنّ نقيب الممثلين في مصر أحال فريق عمل فيلم سينمائي إلى التحقيق، لأنهم اشتغلوا فترة طويلة من دون توّقف، وجاء في البيان إنّ هذا القرار يأتي حفاظًا على القوى الناعمة المصرية.
هي، إذن، طبقة أعلى من كلّ طبقات المجتمع. لذا يجب الحفاظ عليها، حفاظًا على الوطن نفسه. وقريبًا من ذلك، يرى رجال سلطة محمود عبّاس أنفسهم، لا يقاومون ولا يشجّعون على المقاومة، ثمّ يريدون أن يكونوا وحدهم المتحدّثين باسم الوطن، والمعيار الوحيد للوطنية.