مسافة السكة.. الإسماعيلية رايح فقط
يبدو نظام عبد الفتاح السيسي راضياً عن كارثة تهجير مسيحيي العريش، مستغلاً هذا الحزن العارم على ما لحق بهم في تنشيط مبيعاته في سوق الحرب على الإرهاب، من خلال ترك المأساة تتسع وتتفاقم، لترسم صورةً لما يدور في العراق وسورية، وهي الصورة التي لطالما استخدمها في عسكرة المجتمع، وقتل السياسة، والإجهاز على أي فرصةٍ لتطور ديمقراطي، والأهم تبرير كل الجرائم بحق الإنسان المصري.
ومن ناحية أخرى، يتم تدريب الأذن المصرية على استقبال مفردة التهجير من سيناء، بحيث تصبح أمراً اعتيادياً فيما بعد، في إطار "بروفة" لعملية تهجير أشمل، وأوسع نطاقاً، تمتد من الأقباط إلى بقية مكونات المجتمع السيناوي، بما يفسح المجال لكل السيناريوهات الكبرى التي تُعدّ للمنطقة، بما تتضمنه من توطين وتغيير في الطبيعة الجغرافية والتركيبة السكانية.
ويلفت النظر، هنا، أن الإسماعيلية، وحدها، تنهض وطناً بديلاً للمهجّرين، ولم أكن أرجم بالغيب، حين قلت، قبل أيام، إن بناء"إسماعيلية جديدة" في الأراضي بين سيناء والإسماعيلية القديمة، أمر مثير للريبة والأسئلة المتعلقة بفتح موضوع استخدام أراضي سيناء حلاً لأزمات إقليمية مزمنة.
وما كتبته كان نقلاً عن مصادر، أثق بها، استرعى انتباهها هذه الهمة والجدية، والعجلة، في إنجاز إنشاء مدينةٍ سكانيةٍ، كاملة، في وقتٍ تتعثر فيها مشاريع السيسي الأخرى التي لم تكن سوى عناوين ضخمة في وسائل إعلامه، من دون أن تتحقق على الأرض.
في مقابل عشرات الآلاف من المواطنين الذين تدور عملية تهجيرهم، هرباً من حرب الإرهاب على الإرهاب، تقفز أعداد السائحين الصهاينة إلى سيناء قفزاتٍ غير مسبوقة، بحيث بلغت نسبة زيادتها أواخر العام الماضي 140% عن العام السابق 2015.
تقول الأرقام المعلنة في الكيان الصهيوني إنه، منذ عودة السياحة الإسرائيلية في أبريل/ نيسان 2016 وحتى أكتوبر/ تشرين أول 2016، سجل منفذ طابا دخول نحو 420 ألف سائح إسرائيلي، بزيادة قدرها 380 ألفاً عن الفترة نفسها من العام السابق، وقد استمرت الزيادة على الرغم من التحذيرات الإسرائيلية، الرسمية، من المخاطر الأمنية.
لم نسمع يوماً أن الدواعش استهدفوا الصهاينة السائحين، ولم نعرف أن سلطات عبد الفتاح السيسي نصحتهم بعدم المجيء، أو اضطرتهم إلى النزوح، بعيداً عن الخطر، كما جرى مع المواطنين المصريين المسيحيين الذين باتوا موضوعاً لعناوين مثيرة، مثل النازحين والمبعدين والمهجرين قسرياً، والعالقين في دروب الرحيل الإجباري. وبالتوازي، يشتعل الحديث عن المساعدات والأعمال التطوعية والتبرعات، تضامناً مع المهجرين من سيناء إلى الاسماعيلية الشقيقة.
وهذا ما تنطق به تفاصيل المشهد: الإسرائيليون يعيشون أحلى الأوقات بين داعش والسيسي، فيما يواجه المصريون الجحيم، لتصبح المعادلة هكذا: لا مشكلة بين السيسي وإسرائيل، بل وئام وانسجام وتحالف.. لا مواجهة أو صراع بين "داعش" وإسرائيل، بل تعايش وتفاهم، وبذلك تكون الخلاصة أن لا مواجهة حقيقية بين السيسي و"داعش"، بل استثمار متبادل في بورصة الخوف.
لن أعيد تذكيرك بنكتة المتحدث العسكري السابق إن إزالة "داعش" أبسط كثيراً من نفض الغبار العالق على كتف الجاكيت، أو جزم السيسي أن سيناء تحت السيطرة الكاملة، ولا عبارته الكوميدية "مسافة السكة". فقط أطرح عليك السؤال: هل تلمس إرادة حقيقية، وجدية، لدى نظام السيسي لاقتلاع الإرهاب من سيناء؟.
الحاصل أنه كلما تصاعد غبار الإرهاب، وجدها السيسي فرصةً لمزيد من التوحش في القضاء على السياسة، والتغول على الحقوق والحريات، ليصبح الأمن عقيدة الدولة ودستورها الوحيد، وأقرب مثالٍ على ذلك استثمار مأساة تهجير الأقباط قسرياً في الدفع بمشاريع برلمانية تفرض مد فترة الرئاسة إلى ست سنوات، ومقترحات بتعديل الدستور، الانقلابي، بحيث لا يمنع ترشح الرئيس أكثر من فترتين، وهو ما يعرف في تراث الاستبداد المصري بـ "مشروع فايدة"، نسبة إلى النائبة، المطربة، فايدة كامل، زوجة وزير داخلية أنور السادات، الشرس النبوي إسماعيل، ناهيك عن المضي في إسقاط عضوية النائب محمد السادات، عقاباً له على التواصل مع منظمات مجتمع مدني دولية، وأيضاً الأحكام المغلظة ضد الشبان الذين تظاهروا، إحياء لمناسبة مرور أربع سنوات على ثورة يناير.
وإذا كانت انتفاضة المجتمع المدني والقوى السياسية، تضامناً مع المهجرين، تبدو عملاً جيداً ونبيلاً، فإن التضامن الأهم مكانه العريش، وليس الإسماعيلية، وذلك بإجبار السلطة على الاضطلاع بمسؤوليتها وإعادة "المبعدين" إلى دورهم، من دون إبطاء، بدلاً من تثبيت واقع المنفى والوطن البديل.