مستبدّون فوق الخيال
"أصدر الرئيس عبد الفتاح السيسي، قراراً جمهورياً برقم 433 لسنة 2021 بسحب قرار رئيس الجمهورية رقم 327 لسنة 2021 فيما تضمنه من تعيين محمد جمال السيد طايع بوظيفة مندوب مساعد بمجلس الدولة .. واستند القرار إلى موافقة المجلس الخاص للشئون الإدارية بمجلس الدولة بجلسته المعقودة بتاريخ 28 أغسطس 2021، وبناء على ما عرضه وزير العدل".
على ضوء هذا هو المنشور في الصحف والمواقع المصرية، نقلًا عن الجريدة الرسمية، قبل أقل من أسبوعين، فإن السيسي صاحب سلطة التعيين، وأيضًا صاحب سلطة إنهاء التعيين، لكن ذلك لم يمنعه من الإعلان عن أن عقيدته الذهبية التي لا يحيد عنها هي عدم التدخل في شؤون القضاء.
هذا الإعلان أثار سخرية هائلة، بالنظر إلى أن القضاء كان حاضرًا ضمن أدوات السيسي من أجل الاستيلاء على السلطة، بقوة الانقلاب منذ اليوم الأول، لكن ما أثار سخريةً أشدّ هو إعلان كل من وزير العدل ورئيس المحكمة الدستورية أن القضاء في مصر غير مسيّس، ثم إعلانهما أن السيسي أصدر توجيهات وتعليمات برقمنة العدالة في مصر. والإعلان الثاني يصطدم بالإعلان الأول، كون الأخير يقول، بوضوح، إن الأمور الفنية المتعلقة بعمل القضاء لا تتم إلا بتوجيهات الرئيس وتعليماته.
قبل أيام، وحين هدّد السيسي ملايين من الجماهير بتحريك الجيش لهدم المباني المخالفة، أعلن، بوضوح، إنه سيمضي في تهديده ووعيده لأن ما يقوم به عمل يفوق الخيال، لم يصل إليه أحد من قبل، ولن يصل إليه أحد من بعد.
لم يحدُث في تاريخ النظم المستبدّة أن شاهدنا الاستبداد يعلن عن ذاته، ويمنح نفسَه شهادات التفوق والنبوغ والعبقرية، فقد كان ذلك متروكًا لطبقةٍ من الطبّالين والزمّارين، يتوزّعون في منابر الإعلام والسياسة، ينحتون أوصافًا وألقابًا يُسبغونها على الزعيم، من نوعية "سابق عصره" والقائد الملهم، وصاحب الفضل وباني النهضة ومنشئ الوطن. لكن السيسي يفضّل أن يفعلها بنفسه منذ البداية، هو الواصف والموصوف، وهو صاحب كل سلطة، حتى سلطة النفاق والتهليل، مثلما هو بطل الدراما التلفزيونية ومنتجها وصائغ أفكارها ومضامينها.
هذا الجنون بالريادة والتفرّد لا يغيب عن السلالة الجديدة من المستبدّين العرب الذين يعتبرون كل ما قبلهم والعدم سواء، فالأوطان لم تصبح أوطانا إلا بمجيئهم، والحياة لا تسير إلا إذا قادوها وساروا بها.
لن تجد فروقًا كبيرة بين الطاغيين، العسكري والمدني، فقيس سعيد دكتاتور الشعبوية التونسية، وهو يقبض على كل السلطات بيد، وبالأخرى يصدر أوامر وقرارات تصفية المعارضين والخصوم السياسين، قرّر أن كل ما قبله كان باطلًا: الثورة التي نافقها وتملقها ماتت وانتهت في 14 جانفي، والانتخابات النيابية التي أجريت بعد الثورة كلها باطلة ومعيبة ومشوبة بالفساد المالي .. باختصار، الكل باطل، إلا الزعيم.
طغاتنا لا يتصوّرون حياة الأمة إلا بوجودهم فوق عروشها، ولا يتخيّلون أن بإمكان الشعوب أن تبقى إلا إذا استمرّوا في السلطة، لا يفكّر الواحد منهم، في النهاية، أبدًا، فكل يوم يمرّ هو في بداية متجدّدة، وهكذا يشطب التاريخ ويلغي التقويم، في عمليةٍ دائمةٍ لا تتوقف إلا بتوقف نبضه. وكما كتبتُ سابقًا، الطاغية لا يترك القصر إلا إلى القبر، ولا يغادر العرش إلا إلى النعش، وهو في هذه السيرورة المرعبة لا يتورّع عن قتل كل قيد أو نص يستشعر منه توقيتًا لانتهاء فترة حكمه، وكما لا يمكن تخيّل أن يحيا مستبدٌّ من دون استبداد، فإنه لا يستقيم أيضًا أن يتصوّر طاغيةٌ أن يعيش تحت رحمة دستور أو قانون، وإذا كان الدستور هو أبو القوانين فإن الطاغية يعتبر نفسه أبًا للدستور والقوانين معاً.