مشاهد من قلب الحظر
ليست أكثر من مفارقة سوريالية .. هكذا خاطبت السيدة الضجرة نفسها، وهي تتنبه إلى أن اليوم العالمي للصحة العقلية يتزامن مع اليوم الثاني للحظر الكلي الذي فرضته الدولة على مواطنيها يومي العطلة الأسبوعية وحتى إشعار آخر، كما جاء في البيان الرسمي. أحسّت السيدة بأنها تقف على حافّة الانهيار. دخلت إلى الموقع الإلكتروني عن أهمية العناية بالصحة العقلية والنفسية، ويضع جملة اقتراحات لتعزيزها وحمايتها من الانهيار، مثل إذا كنت حزينا عليك أن تبحث عن مجموعة دعم من أشخاص إيجابيين يساعدونك على تخطّي الأزمة. سرحت بفكرها مستعرضةً الأشخاص المرشّحين لمثل هذه المهمة النبيلة، ولكن النتيجة واحدة. الكل محبط، ومتشائم، ومكتئب، وعاجز عن الإنجاز. حالة ترقّب مضنية تفتك بالصغير قبل الكبير. تابعَت، من باب تزجية الوقت، تعليقات أصحاب نظرية المؤامرة الكونية الكبرى من أولئك الشامتين بإصابة ترامب وزوجته بكورونا، وقد مُنيوا بخيبة أمل كبرى عند ظهوره من جديد، متعاليا معافى، وبسبب توقف حركة السيارات كليا في الشارع واختفاء أصوات بائعي الخضروات والفاكهة.
تسنّى لها أن تستمع من دون أي محاولة استراق إلى مشاجرة حامية، دبّت بين الجيران في البيت المقابل. الزوجة تعبّر عن ندمها على الاقتران بهذا الزوج الذي يشبه الموت لفرط بلادته. تحثّه، بلا فائدة، أن يساعدها في أعمال البيت ورعاية الصغار، بدل انتقاداته التي بلا معنى. في حين يكيل لها الشتائم التي وصلت إلى سابع جد من عائلتها، ويخص والدتها الشرّيرة بأقذع الصفات، مؤكّدا أنه "في حالة طب الجرّة على تمها بتيجي البنت لأمها". لم تصمت المرأة وردّت بهجوم مماثل على والدته، أم الحجب كما وصفتها "طول نهارها دايرة على الشيوخ"، لإيقاع الأذية بها، ما يفسر حالة الصداع النصفي التي لا تغادرها (!). رفعت صاحبتنا صوت الموسيقى، كي تجنب جيرانها الحرج، لأنها لمحت فضوليين من الشقق المجاورة خلف ستائر نوافذهم يحاولون الوقوف على مزيدٍ من تفاصيل النزاع القائم بين الزوجين.
صرخت جارة من الأسفل بعصبية: أخفضوا صوت الموسيقى، يا من لا تخافون الله، ترفعون صوت الموسيقى الفاجرة، وكأنكم في ناد ليلي. حان وقت أذان الظهيرة. الله لا يسامحه من منع أداء الصلاة في الجوامع... أوشكت أن تطل برأسها من النافذة، كي تشرح لجارتها أن موسيقى عمر خيرت ليست فاجرة، وأنها تبعث الهدوء في النفس، وأن منع أداء الصلاة إجراء تم في دول كثيرة، هدفه الحدّ من حجم التقارب، حماية للناس من خطر الإصابة. لكنها أحجمت خوفا من تطور الأمر بينهما إلى مشاجرة أيديولوجية، سوف تخرج منها خاسرة. أجرت مكالمات هاتفية مع أبنائها الموزّعين في عدة بلدان. وقد باعد فيروس كورونا اللعين بينهم. وأحسّت بالامتنان للتطور التكنولوجي الهائل الذي جعل ذلك ممكنا. تشاهدهم عبر الكاميرا، تتأمل ملامحهم بحبّ. تنخرط في الحديث عن تفاصيل يومها غير المشوقة. تستمع إلى تفاصيلهم، حيث يؤكّدون أن لا جديد في غربتهم سوى الانتظار. يفرح قلبها بتلك المكالمات التي تحدّ قليلا من هجمة الشوق للأحبة البعيدين. وسرعان ما تعاود الوحشة غزو قلبها المتعب.
تقرأ صفحاتٍ من رواية الكولومبي، جيمس كانون، "حكايات من ضيعة الأرامل" التي تدور أحداثها في قرية كولومبية جبلية نائية، في مطلع التسعينيات. رواية شائقة على ما يبدو. لا تختلف عن عوالم كتاب أميركا اللاتينية، من حيث الواقعية السحرية والغرائبية والتفاصيل المثيرة، غير أنها تحتاج درجة عالية من التركيز. تضع الرواية جانبا، واعدة نفسها بقراءتها في موعد الحجْر المقبل الذي بشّرت به الحكومة، تحت عنوان حظر أسبوعي إلى إشعار آخر.