مصر: الحقيقة المذهلة أن الجميع في السلسلة
لا فرق عند السلطة في مصر وقوانينها بين أموال صاحب محلات "التوحيد والنور" وأموال أصحاب "المبادرة المصرية للحقوق الشخصية" وممتلكات رئيس مجموعة "جهينة"، رجل الأعمال صفوان ثابت. الكل، في نظر القانون الجائر، وفي فوهة مدافع البطش والقرصنة (المصادرة)، سواء، إذ لا تعدم سلطة "مجنونة الأنياب والرغبة" الوسائل لاستحلال واستباحة كل من لا يعجبها، إذ التهمة واحدة: مساعدة جماعة إرهابية في تحقيق أهدافها. ولكن ذلك لا ينفي أن هناك تمييزًا على الهوية بين الضحايا، فتصبح المسألة هنا موضوعًا للنضال الحقوقي، وهناك مجرد إجراءات اقتصادية اعتيادية.
قضية السطو على مؤسسة صفوان ثابت واعتقاله وحبسه لا تقل كارثية وفداحة، بمسطرة حقوق الإنسان، عن قضية مؤسسة، أو منظمة، أو جمعية "المبادرة المصرية للحقوق الشخصية"، وإن كانت الأولى تتخذ طابعًا اقتصاديًا، والثانية تكتسب غلافًا سياسيًا، لكننا في المحصلة بصدد عملية اعتداءٍ صريحٍ على حقوق إنسان يعمل في العلن ووفق القوانين المصرية، ويسهم إسهامًا مشهودًا به في الاقتصاد المصري منذ عقود طويلة، على نحو لقي إشادة من جمهور المستهلكين، كما لم يثبت عليه فساد أو نصب على البنوك ، كما في حالة رجال أعمال كثيرين فاسدين، يجلسون على حجر السلطة.
ما الذي جعل القرصنة على قصة نجاح مذهلة في "جهينة" شأنًا لا يتعدّى دائرة الاقتصاد والاستثمار، بينما التحرّش السريع بناشطي مبادرة الحقوق الشخصية وتجميد أموالهم موضوع حريات وحقوق سياسية وإنسانية، ينتفض لها العالم، بقواه الدبلوماسية الخشنة (وزارات خارجية أوروبية تضغط، و"قواه الناعمة" نجوم هوليوود، وشخصيات سياسية دولية تندد، على الرغم من أننا بصدد قضية واحدة: اعتداء غشيم من السلطة على نشاط أهلي، أو عمل مجتمع مدني؟
لماذا سكت الضمير عن هذا، وتكلم عن ذاك؟ "الإخوان جماعة إرهابية"، هذه الجملة الاسمية التي صكّها سياسيون مدنيون، يطرحون أنفسهم مستنيرين وديمقراطيين ووطنيين، كانت هي المشنقة الثورية الأنيقة التي التفّت على رقابهم ورقاب الجميع فيما بعد، حتى صارت مصر كلها عرضةً للاتهام والمحاكمة بوصفها "إرهابية".
الذي أعدّ المذكرة القانونية التي استند عليها قرار تصنيف الإخوان إرهابية، كان السياسي البارز في حزب الدستور الليبرالي الثوري الديمقراطي، الذي كوفئ على حماسه للإقصاء الفاشي بتعيينه وزيرًا للعمل والتضامن الاجتماعي أحمد البرعي، والذي احترق سريعًا وأحيل إلى الاستيداع، بعد أن أدى الدور المحدد له.
كان ذلك في ديسمبر/ كانون أول 2013، وقد مرّت ستة أشهر فقط على رقصة الانتحار الجماعي في الثلاثين من يونيو، حين تنافس المتنافسون في الفاشية والمكارثية منذ اللحظة الأولى للانقلاب: ناشطون مشهورون يقيمون حفلات شماتةٍ وتحريضٍ على افتراس، بل وتعذيب المختلفين سياسيًا، منهم من يبدع في ابتكار وسائل للانتقام والتعذيب .. وسياسيون ومثقفون يدبّجون البيانات والقصائد في روعة ما يقوم به الطغاة الفائزون .. ومجتمع حقوقي في معظمه غائب، أو ساكت، أو متواطئ بالصمت، باستثناءاتٍ نادرة جدًا يسطع منها اسم الراحل أحمد سيف الإسلام، وآخرون، تم وضعهم على قوائم الانتقام والتربص، فيما بعد.
قرار تصنيف الإخوان جماعة إرهابية تدحرج من مجلس الوزراء المعيّن لخدمة الانقلاب، برئاسة الليبرالي صاحب المؤلفات الغزيرة في موضوع الليبرالية حازم الببلاوي، ومنه إلى القضاء، وسط تصفيق حاد من جمهور التفويض المشؤوم للجنرال، حتى صدر بصيغة تجعل كل من يعارض إخوانيًا أو مشاركًا للإخوان، وكل من يرفض الانقلاب العسكري، سواء نظرية أو تطبيقًا، هو كذلك منهم، تنطبق ليه الأحكام وتطبق عليه العقوبات.
أسوأ ما فعله المجتمع السياسي المصري في نفسه أنه وافق، مدفوعًا بغرائز الاقتناص والانتهازية وروح الشماتة، على أن يضع، بنفسه، حول رقبته، تلك المشنقة الفاخرة التي تخنق الجميع الآن، خصوم الإخوان قبل الإخوان، لتكون عبارة "مشاركة جماعة إرهابية تحقيق أهدافها" هي السمّ الذي تواطأ الكل على تصنيعه، ثم تجرعوه لاحقًا، جبرًا وإكراهًا.
الواقع الأليم في مصر الآن ينبئنا بأن قضية حقوق الإنسان جرى اختزالها وتقليصها حتى صار المطلب هو الحرية للمشتغلين في مجال حقوق الإنسان، الذين وجدوا أنفسهم بعد هذه السنوات مهددين في حريتهم وأمنهم وحياتهم، على نحو لا يدع مجالًا للكلام عن حقوق المواطن العادي .. باتت القضية حقوق المنظمات لا حقوق الإنسان، وهو وضع نجح النظام في فرضه على الجميع بدهاء، غير أن ذلك لا يعفي المجتمع المدني من بعض المسؤولية عن كارثية الوضع القائم.
دهاء السلطة جعلها تغرق السوق بعشراتٍ من الكيانات والمنظمات الحقوقية، المصنوعة على يديها، والتي تحدث جلبة مبتذلة وتوفر مناخًا رائعًا من الإسفاف في تقديم العمل الحقوقي للمواطن البسيط، بحيث صارت هناك وفرة هائلة من المشتغلين في حقوق الإنسان، مقابل ندرة شديدة في المنشغلين بحقوق الإنسان، وشتان بين الاشتغال، الذي هو حرفة، والانشغال بوصفه موقفًا أخلاقيًا بالأساس.
هي القاعدة المعروفة التي تتناقلها أجيال من الطغاة منذ قرون عديدة: العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة، فلنغرق المجال العام بأكشاك حقوقية مثيرة للسخرية، والقرف، حتى تصبح الصورة كلها على هذا النحو البائس: حقوق الإنسان معناها التمويل الأجنبي والتخابر مع الأعداء.
المجتمع السياسي والحقوقي أخطأ منهجيًا، حين استسلم لاعتماد مقولة "المتهم ليس من الإخوان" أسلوب دفاع ومرافعة من أجل البراءة، من دون أن يلتفت أحدٌ إلى أن في ذلك تكريسًا لقانونية البطش بكل ما هو إخواني، أو متواصل معه، أو متفق معه في رأي سياسي، أو اقتصادي، حتى وصلنا إلى اعتبار المعارضة، بكل درجاتها، للسلطة الحاكمة، بابًا للاتهام بالأخونة، فإن انتقدت قرارًا، أو شخصًا، أو إجراءً، فأنت تتكلم كالإخوان وتشاركهم الامتعاض.. إذن أنت منهم، أو مثلهم، أو متعاطف معهم، أو مشارك في تحقيق أهدافهم.. بكلمة واحدة: أنت إرهابي.
ملحوظة: مرّت هذا الأسبوع ذكرى رحيل أحمد فؤاد نجم، الذي قال لنا قبل أن يغادرنا أن: الحقيقة المذهلة أن الجميع في السلسلة وفوق الرقاب يا معلمين أحبال قطيفة مدلدلة .. تلك التي غناها محمد منير قبل أن يعتلي مسرح الاستبداد.