مصر المهروسة
في صربيا، أقالوا وزير الدفاع، لأنه غازل صحافية في مؤتمر عام، بطريقة فجّة.
في مصر، داس أمناء الشرطة على وجه طبيبٍ في مستشفى المطرية، فتحوّل أطباء المستشفى إلى متهمين، وأطباء مصر كلهم إلى مخربين، يريدون هدم استقرار الوطن.
يقول الخبر إن 195 من أصل 250 نائباً في البرلمان صوّتوا لصالح قرار عزل وزير الدفاع، براتسيلاف جاسيتش، إثر احتجاجات غاضبة للصحافيين، اندلعت في الأسبوع الأخير من العام المنصرم، على إساءته لمهنتهم، حيث التقطت الكاميرا تعليقاً سخيفا للوزير، على صحافية انحنت لتجنب إعاقة التصوير بقوله "أحب أولئك الصحافيين الذين ينحنون بسهولة".
لم تهدأ تظاهرات الصحافيين الصربيين على مدى أسبوعين، حتى اضطر رئيس الحكومة لطرح موضوع إقالة وزير الدفاع على البرلمان الذي صوّت بأغلبية كاسحة لصالح القرار.
في مصر، تقول الأخبار إن النائب العام أمر بفتح وتشغيل مستشفى المطرية بالقوة، بعد أن أعلن الأطباء إضراباً عن العمل، اعتراضاً على هجوم همجي من أمناء الشرطة، انتهى بأن وضع أحدهم قدمه على وجه طبيب، واقتادوه وزملاءه إلى قسم الشرطة، المشهور بكونه سلخانةَ تعذيب وقتل، وحين لجأ الأطباء إلى النيابة، أجبروا على التنازل قسراً.
يخوض أطباء مصر معركة كرامة الآن، ليس دفاعاً عن مهنتهم، وإنما انتصاراً لحق المواطن في تلقي العلاج على أيدي بشر أحرار يرفعون رؤوسهم، وليس عبيداً تداس وجوههم بالبيادات فيخفضون رؤوسهم في ذل.
وفيما يتداعى أطباء مصر إلى وقفة كرامة، تعلن إضراباً عاماً عن العمل، ضد غطرسة الدولة الأمنية التي بدأت في تشغيل أبواقها الإعلامية، تحريضاً ضد الأطباء، لا يبدو أن أحداً في السلطة يريد أن يغضب إمبراطورية الضباط وأمناء الشرطة، فيما يتحوّل البرلمان إلى مخفر، أو إدارة تابعة لوزارة الداخلية، حيث لا حس ولا خبر، وكأن المعركة تدور في بلاد ما تحت قاع المحيط.
يحرّضون الشعب على الأطباء، لكي تنتعش "دولة الأمناء"، وتقف فوق وجه الثورة التي قامت ضدهم قبل خمس سنوات، هذه الثورة التي كان الأطباء خط الدفاع الأول في ميادينها أمام بشاعة الهجمات الأمنية المسلحة على الملايين التي خرجت تنادي بالتغيير وإسقاط الفساد والاستبداد، وكان معظمهم من الطبيبات والأطباء الشبان الذين لا يزيد دخلهم عن أجرة تاكسي إلى الميدان.
الفرق بين صربيا ومصر أن لدى الصرب نظاماً سياسياً ودولة ودستوراً وقانوناً وبرلماناً، يمتلك سلطة حقيقية في الرقابة والتشريع، كونه جاء بانتخاب جموع الشعب لأعضائه.. أما في مصر، فلا توجد دولة من الأساس، بل تنظيم مسلح يحكم، أو تشكيل عصابي يأتمر بإرادة شخص واحد، هو الحاكم والمشرّع والمراقب، هو الرئيس والدستور والبرلمان، أو كما كتبت "إندبندنت" في عبارة واحدة "دولة اللاقانون"، تعليقا على جريمة اختفاء الإيطالي جوليو ريجيني وتعذيبه وتصفيته في القاهرة، عاصمة "مصر المهروسة"، في واحدةٍ من أحط فظائع الدولة القمعية.
في مصر السيسية، يصرخ مهرّجون ممسكون بميكروفونات صدئة، في استيودهات الفضاء الملوث بالكذب، بأن الدولة بلغت من الهشاشة والتدني أنها لا تحتمل حضور مجموعة من الجماهير تدريباً لكرة القدم، استعداداً لمباراة بين الأهلي والزمالك، لا تقوى العاصمة على استضافتها، فقرّروا إقامتها في الصحراء الغربية.
في "مصر المهروسة"، الأطباء والصحافيون والطلاب والعمال يشكلون صوراً لتلك "القلّة المندسّة" التي لا تريد خيراً للوطن، لأنها تتجرأ وتطالب بالكرامة الإنسانية والعدالة وحق الإنسان في التظاهر والتعبير والسفر.
في "المهروسة"، يتضاءل دور رئيس الدولة إلى افتتاح مستشفى قروي، أو تدشين مخبز بلدي، أو إطلاق إشارة الانطلاق في مصنع مرطبات قطاع خاص، أو التعليق على انهيار جسر مشاة، متحدثاً في "فقه الخوابير"، وكأنه مسؤول الإدارة الهندسية في أحد الأحياء.
في "المهروسة"، يعنّف رئيس الدولة شعبه، لأنه يشرب ويأكل ويتكاثر، ويحلم بمستقبل أفضل، مثل شعوب الأرض، ويقول لمواطنيه إن عليهم دفع كلفة المياه التي يستهلكونها كاملة، لأنه لن يدفع لهم دعماً بعد اليوم.. يتكلم وكأن "مصر هبة السيسي" وليست "هبة النيل"، أو كأنه يشتري مياه النيل من جيبه الخاص، ويوزعها على الفقراء والمحتاجين، وحان الوقت لكي يدفعوا الثمن.