مصر .. مع الشرطة وضدها
كم كان فجّاً ذلك الاحتفاء الرسمي المبالغ فيه بعيد الشرطة المصرية في 25 الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني). كأن السلطة في مصر تتعمد محو أي مناسباتٍ أخرى في اليوم نفسه من ذاكرة التاريخ، وتحديداً ذكرى ثورة 25 يناير.
ليست هناك مشكلة بالطبع في أن تحتفل مصر الرسمية بشرطتها، حتى وإن بمبالغة. المشكلة في إقران تعظيم المناسبة بتقزيم (وتجاهل) أخرى ليست أقل أهمية وتأثيراً. بل على العكس، الاحتفاء بعيد الشرطة أمر روتيني حكومي يتم سنوياً من دون أي تأثر شعبي أو صدى له بين المواطنين. أما ثورة يناير فلا حاجة لتأكيد أهميتها وتاريخيتها وتأثيرها العظيم في كل المصريين.
حاولت مؤسسات الدولة المصرية هذا العام تضخيم الاحتفال السنوي بالشرطة، وإسقاط القيم الوطنية النبيلة المرتبطة به على الوقت الراهن. على الرغم من أن الفارق شاسع بين الشرطة الحالية، بممارساتها وولاءاتها، وشرطة عام 1951 التي كانت بسالتها سبباً في تلك الذكرى السنوية. في ذلك العام، دافع ضباط مركز شرطة في مدينة الإسماعيلية، وأمناؤه وجنوده، عن مبنى المركز ضد قوات الاحتلال الإنكليزي. وتعرّض أفراد الشرطة المصريون، على قلة عددهم، لقصف مكثف للمكان، استمر حتى سقوط آخر شهيد منهم. أي أن العيد والاحتفال السنوي مردّه أساساً صمود الشرطة المصرية وبسالتها ووطنيتها ضد الاحتلال.. نعم احتلال أجنبي وليس ضد مواطن مصري أياً كان. أما من يحتفون بيناير الثورة الشعبية التي قامت ضد الشرطة المصرية، فهذا حقهم، حتى وإن لم يكونوا كل المصريين، فلديهم قناعةٌ ويقينٌ وإيمانٌ بما قامت بسببه ومن أجله ثورة يناير. تماماً كبعض الجماعات أو الطوائف التي يسمح لها بممارسة الشعائر والطقوس التي يؤمنون بها. مثلاً، تجري أكثر من مرة سنوياً احتفالات ضخمة تسمى "موالد" يرتادها عشرات آلاف من أتباع الحركات الصوفية في مصر، لإحياء مناسبات ميلاد آل بيت الرسول (السيدة زينب، الحسين بن علي، السيد البدوي، ... وغيرهم). بل حتى سنوات قليلة مضت، كان بعض اليهود من داخل مصر وخارجها يقيمون احتفالاً سنوياً عند قبر شخص يدعى أبو حصيرة، لا دليل على أي خصوصية له في الديانة اليهودية.
ذلك التربص المتعمد بذكرى 25 يناير لا يعني فقط تجاهل ثورةٍ احتفى بها العالم أجمع، وليس ملايين المصريين وحدهم. وإنما هو سير عكس الاتجاه ومعاندة لحركة التاريخ وإرادة الشعب. فأولئك الذين يدفعون نحو تجاهل ثورة يناير، والتعتيم عليها، وبكل وقاحة، يتهمون أبناءها بالخيانة والعمالة والمؤامرة، هم تحديداً من تمثّل يناير أساس وجودهم في أماكنهم وحيثية تصدّرهم المشهد العام في مصر حالياً. ولولا أن هؤلاء أقرّوا بشعبية ثورة يناير ووطنيتها وشرعيتها، وقدّموا لها التحية العسكرية، لما صار أحدهم رئيساً، ولا خرج من بينهم وزراء وقادة ومسؤولون وإعلاميون كبار. ولما تحوّل عشراتٌ بل مئات من هؤلاء إلى نجوم وأصحاب حظوة وسطوة، فضلاً عن عشرات آلاف غيرهم استفادوا، أيما استفادة، من ثورة يناير، قبل أن يتضح لاحقاً أنهم "مواطنون شرفاء".
ما لم ينتبه إليه كل هؤلاء أن الاحتفال بيناير الشرطة يجري سنوياً منذ سبعة عقود، ولم يجد نفعاً في تحسين الصورة الذهنية للشرطة، فلا أوجَد لها مودة، ولا فرض احترامها على المواطنين. وما يصعب على أمثال هؤلاء إدراكه أن التربص بيناير الثورة ومحاولة إخفاء ذكراها يعني، ببساطة، أنها موجودة وحاضرة لديهم، ربما أكثر من أصحابها والمؤمنين بها. وأن مجرّد ذكرها يرعب قلوبهم ويشلّ عقولهم. وهو ما يدفعهم إلى الهروب منها وإنكارها، إذ تُذكرهم بانكشاف عوراتهم.
أما الجدير حقاً بالبحث والتحليل، فهو ذلك التناقض الذي يعيشه المصريون، فمصر البلد الوحيد في العالم الذي تجتمع فيه مناسبتان متناقضتان في يوم واحد، فالحكومة تحتفل بعيد الشرطة، والشعب يُحيي في اليوم نفسه ذكرى ثورة ضد الشرطة.