مصر من الحضارة إلى الحجارة
احتفت مصر الرسمية قبل أيام بترميم مسجد السيدة نفيسة في القاهرة وتجديده. واستفاض كهنة الإعلام في مديح تلك التغييرات، واعتبارها "ترجمة عملية لاهتمام الدولة بإحياء مساجد آل البيت وتجديد المواقع التراثية". اشتملت التجديدات والإضافات التي أُقحمت في بنيان المسجد على نقوش وزخرفة وإضاءات، فضلاً عن تبطين الجدران بألواح رخامية حديثة الطراز.
مقابل هذه البروباغندا الرسمية، أبدى عدة خبراء في الآثار والفن التشكيلي استياءهم مما اعتبروه تشويهاً للمسجد، وتدميراً لمحتوياته الأثرية والتاريخية، إذ أخفى الرخام الحديث اللامع الحوائط الأصلية للمسجد، والمبنيّة بأحجار طبيعية، كانت تُضفي خشوعاً وروحانيات على الأجواء الداخلية.
ومنح التجديد للمسجد إضاءات كهربائية حديثة، نزعت الهدوء من المكان، وشتت انتباه المصلّين والزوار. وصار الإزعاج البصري سمةً مميّزة ليس فقط لنوعية أماكن الإضاءة وتوزيعها، لكن أيضاً لألوانها ونقاط تركزها. بالإضافة إلى ذلك، أزيل في أثناء تجديد حوائط المسجد اسم السيدة نفيسة المسمّى المسجد باسمها، وكذلك أسماء من قاموا بالتجديدات السابقة، من السلطان عبّاس حلمي الثاني وحتى الرئيس الراحل أنور السادات. ولم يقتصر الأمر على تشويه المكوّنات الأصلية في المسجد، فقد اختفت بعض القطع، ولا يُعرف مكانها. منها باب ضريح السيدة نفيسة، وهو من الفضة. وتشكيلات من الجصّ كانت تزين أسقف المسجد وجدرانه.
السبب المباشر للاحتفاء الرسمي بذلك التخريب أنه حظي باهتمام الحاكم بأمره في مصر، إذ شارك في افتتاحه. رغم أنّ طائفة البهرة تولّت ترميم مسجدي الحسين والحاكم بأمر الله قبله وتجديدهما. ومن مصادفات القدر أن كليهما لم يحظيا بذلك الافتتاح السلطوي، ولم يكونا على درجة السوء والتشوّه الذي أصاب مسجد السيدة نفيسة.
ليس "السيدة نفيسة" الحالة الأولى التي تتعرّض فيها مظاهر للحضارة المصرية أو الإسلامية للتشويه. فمنذ أيام، خشيت الإدارة المحلية من دهس المارّة والسيارات بالوعة صرف صحّي جديدة، لم تكن مواد تثبيتها الأسمنتية قد جفّت بعد، فكسر المسؤولون عن التنفيذ جزءاً من تمثال في مكان مجاور ووضعوه فوق البالوعة كعلامة تحذيرية. وفي العام الماضي، شهدت الإسكندرية حالة سخريةٍ واسعة، بسبب إعادة تنصيب تمثال يجسّد "عروس البحر" بعيدٍ تماماً عن التمثال الأصلي. كما شهدت محافظات الصعيد حالات متكرّرة لوضع تماثيل فرعونية قبيحة، كما لو كانت منحوتةً بأيدي أطفال.
المؤكّد أنه ليس أمراً عارضاً أو استثنائياً أن يتلازم التخريب والتشويه مع كل عمليات التجديد والترميم، وأن يصير القُبح والدمامة سمْتاً أصيلاً في أي عمل أو إجراء يُفترض أنه تجميلي، فثّمة سياق أشمل يفسر ذلك النزوع التلقائي نحو القبح والتوافق الضمني مع تدنّي الذوق وانحدار الحس الفني والجمالي، ليس فقط عند القائمين على الأمر وحدهم، وإنما أيضاً عند من يُستعان بهم في إدارة شؤون الدولة، بما فيها الجوانب التنفيذية. وهو أمرٌ متعارفٌ عليه في الإدارة بشكل عام، فغالباً ما يختار القادة والمسؤولون مساعدين وقيادات وسطى ممن يشبهونهم، ويكون هؤلاء دائماً أقلّ كفاءة وأضعف قدرات. وهو أمرٌ منطقي، كي لا يتفوّق المرؤوسون على رؤسائهم، أو يكشفوا عوراتهم.
لقد وصل البشر إلى قمّة الإبداع، حين تمكّنوا من تحويل الحجارة إلى حضارة، وحوّلوا المكونات الخشنة في الأرض إلى أعمالٍ تنطق بالجمال، وتحمل من روح صانعيها. وكان تجسير الفجوة بين المادّة والروح أعظم ما ارتقت إليه الحضارات القديمة، الصينيون والمصريون القدماء والرومان والفرس.
أما ما يجري في مصر الراهنة، فليس إلا نسفاً للإنسانية. وما يُطلق عليه زوراً تجديداً وتحديثاً هو انتكاسة للإنسانية إلى البدائية، وارتدادٌ من الحضارة إلى الحجارة.