مصر والصمت وعامها الجديد وأزمتها الاقتصادية
تحت عنوان "الحكاية كانت كده" تنشر صفحة بالاسم نفسه إنجازات السيد الرئيس، وكأنه تسلم حكم مصر صحراء جرداء لا زرع فيها ولا ماء، وهو من شقّ الأنهار والترع والطرق وحفرها، فجعل منها جنة خضراء ذات حدائق غنّاء، يطلق هؤلاء بين حين وآخر حملة ترويجية للنهر الصناعي أو لمجموعة من الأبراج التي لم تكتمل بعد، ومحطات المونوريل في العاصمة الإدارية، موجّهين خطابهم إلى جموع المصريين، وكأن المصريين بذاكرة سمك، أو أنهم ولدوا اليوم، ولا يتذكرون أنه كانت هناك مصر قبل السيد الرئيس.
مساكين هؤلاء، وأحيانا تصعب عليك حالتهم، فهم يحاولون سد الشمس بالغربال، يحاولون ترويج إنجازاتٍ، كثير منها وهمي، وكثير منها غير ذي أولوية، وحتى الضروري منها حمّل الاقتصاد والعملة والمواطن أعباء تنوء بها العصبة أولو القوة وتنوء بها الجبال، ولم يتحمّلها مواطنو أية دولة أخرى، فالناس قد تصمت عن الديمقراطية والحرية بمعادلة ستّينية شهيرة، مفادها "الصمت نحن نحقّق التنمية"، عندما ترى مشروعا للتحرّر الوطني والتنمية، وقد تصمت بمعادلة سبعينية مفادها "الصمت نحن في حالة حرب"، وقد تصمت بحالة موات مباركية "الصمت نحن نحافظ على الاستقرار".
وكل هذه معادلات، حتى وإن لم تتقبلها فأنت تتفهّمها في إطارها وسياقها السياسي ومعطياتها الإقليمية والدولية المعقدة. ولكن كيف تتفهم معادلة "الصمت نحن نحقّق اللاشيء"، أو الصمت نحن نبني مدنا للأغنياء في الصحراء، أو احذر من فضلك، السيارة ترجع إلى أسوأ خلْف، وليس حتى إلى الخلف؟
تتدهور تحويلات المصريين في الخارج نتيجة التذبذب الرهيب في قيمة العملة، وعدم اليقين بشأنها تارة، ونتيجة الحملات الإعلامية والسياسية والبرامج التي تستهدفهم تارات أخرى
كيف تتفهّم تراجعاً على كل الصعد؟ مواطنون يعانون من نقصٍ حادٍّ في أبسط السلع الرئيسية، كالبصل الذي كان مضرب المثل "متسواش بصلة"، فلم يعد متاحا إلا بحدود 50 جنيها للكيلو، بعد أن كان لا يتجاوز نصف جنيه في العام 2013، وكانت الشيكارة كاملة لا تتجاوز 25 جنيها، وقد تصل إلى 50 كيلو وزنا، لن يذكروا لك هذا ضمن "الحكاية التي كانت كده".
لن يذكُروا أنهم ثوّروا الناس على رئيسهم الوحيد المنتخب بأجواء شبه ديمقراطية، لأن الكهرباء تنقطع ربما للحظات أو نصف ساعة يوميا، ثم أصبحت تنقطع على الجميع بجداول ثابتة ما بين ساعتين إلى أربع ساعات يومياً، في بلد ظلّ سنوات بعيدا عن أزمة الكهرباء تلك، لكنهم سيحدّثونك كثيرا عن الإنجازات في قطاع الطاقة والمحطّات الهائلة التي جرى إنشاؤها، وكيف حققت فائضاً في الطاقة، لكنهم لن يحدّثوك أنها مشروعاتٌ تمت بالديون وبكلفة عالية، ومن دون دراسات جدوى لا يؤمنون بها، فكانت النتيجة أن الشيء الوحيد المنتظم في هذا البلد هو الانقطاعات المنتظمة للكهرباء، حتى إن أحد أشهر التعليقات على منشور "لقد كان عاما مليئا بـ.." الحمد لله الكهرباء عادت، سخرية من الانقطاعات.
ولا يملك المصريون سوى السخرية، فأموالهم تحوّلت إلى أوراق لا قيمة لها بالتعويمات المنتظمة والتدهور الذي لا آخر له، وكأنه هوى في مكان سحيق، لا قاع له ولا ضوء في نهاية النفق. تتدهور تحويلات المصريين في الخارج نتيجة التذبذب الرهيب في قيمة العملة، وعدم اليقين بشأنها تارة، ونتيجة الحملات الإعلامية والسياسية والبرامج التي تستهدفهم تارات أخرى، ونبّه عديد الخبراء أنها ستأتي بنتائج عكسية، لكن لا حياة لمن تُنادي.
يتهرّبون من أسئلة الناس بشأن المأكل والمشرب والأساسيات وأولوية المشروعات في ظل الأزمة الحالية، والأعجب أنهم لا يتحمّلون النقد
يحاججك القائمون على هذه الصفحات بالتغنّي بجمال الأبراج والمروج والأنهار الصناعية بعاصمتهم الجديدة، وهي، بالطبع، صفحات تابعة للذباب الإلكتروني ولأجهزة سيادية لم تعد مؤمنة بقدرة الإعلام التقليدي ببرامج "التوك شو" المعبأة بفقرات دعائية موجّهة، والمعروفة بإعلام السامسونغ، على إقناع جمهور الشباب الذي لم يعُد يشاهد التلفاز، ولا الإعلام التقليدي ولا يقتنع بخطاباته، فلا تملك في الردّ عليهم إلا التهكّم، فهي فعلا إنجازات وحاجة حلوة وتحفة فنية بمعاييرهم الفنية والذوقية الرديئة، لكن لا صانع الفيديو ولا المساهمون فيه ولا المعلّقون عليه، يقدرون على تكلفة السكن فيها بالإيجار، هذا في حال افترضنا قدرتهم على أن يجدوا ما يأكلون ويشربون. وأغلب التعليقات على هذه الصفحات هي من قبيل الاستنكار الذي لو كانت تقرأه هذه الأجهزة، ربما لكانت غيّرت رسالتها أو طريقتها في ترويج هذه المشروعات، ناهيك عن أن توجّه بإعادة النظر فيها، فهي مشروعات شخصية للسيد الرئيس، ولا يملك أحد أن يراجعه فيها.
العجيب أنهم يتهرّبون من أسئلة الناس بشأن المأكل والمشرب والأساسيات وأولوية المشروعات في ظل الأزمة الحالية، والأعجب أنهم لا يتحمّلون النقد، فتجدهم يردّون بخطاب تقليدي زائف عن التفاوت قدرا إلهيا، قائلين: هل يجب أن تعيش في مكان كهذا؟ هل سيزيد عمرُك عندما تعيش فيه؟ ارض، يا أخي، بما قسمه الله لك لماذا لا تحمدون الله أبدا؟ ألا ترون الناس حولكم ينامون فى مخيّمات، لماذا تنظرون إلى الأعلى منكم؟
العجيب في هذا الخطاب النيوليبرالي المتعفن أنه يبرّر الظلم باسم الدين، ولا يرضى بتصفيق شبكات المنتفعين فقط، ولا يترك الفقير الذي تستفزّه مستويات التفاوت تلك في حاله، بل حتى الفقير يريدون أن يدوسوه بأقدامهم فيصفّق لهم، وأن يشرب مياه الغسيل، ويقول شربات جميلة على طريقة الفنان إسماعيل ياسين والشاويش عطية، متناسين أن أموال المجتمع التى تبنى بها العاصمة، والمشروعات التي يجري ترويجها هي ليست أموال الأغنياء فقط، بل والديون لن يدفعها الأغنياء، بل مجتمع يدفع فيه الفقراء النصيب الأكبر من الضرائب مباشرة وغير مباشرة أكثر بكثير مما يدفعه الأغنياء. وقد نجد صاحب شركة في العاصمة الإدارية أو العلمين الجديدة يحصل على إعفاءات ضريبية وجمركية بمليارات، بينما العاملون عنده يدفعون ضرائب عند كل خطوة يخطونها، وعند كل عملية شراء، بل وقبل استلام رواتبهم.
يجد المصريون أن الحكاية كانت أفضل في عهد محمد مرسي من العهد الحالي، وفي عهد حسني مبارك كانت أفضل من لاحقه
المعضلة أن الحكاية كانت في 2013 أفضل على كل الصعد وبكل المؤشّرات، الرسمية وغير الرسمية، مما هي عليه الآن، لكنهم لا يراجعون حتى بيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، فالديون الخارجية والداخلية وأعباء خدمتها كانت أقلّ من ربع ما هي عليه الآن، الأجور الحقيقية كانت أفضل بكثير، وحتى معدلات انقطاع الكهرباء كانت أقلّ، على الرغم من أن النظام الحالي يفترض أنه ضاعف الإنتاج، إلا أنه لم يستطع ضمان استمرارية الإمداد بالطاقة، لأنه لم يضاعف قدرات الشبكة على التحمّل، ولم يهتم سوى بتحسين الصورة في الأرقام، حسن ترتيب مصر في جودة الطرق، لكن تدهور القدرة الشرائية للمصريين جعل غالبيتهم الساحقة غير قادرةٍ على شراء أية سيارة حديثة، حيث ثمن التوكتوك الهندي يصل إلى مائة ألف جنيه، وأقلّ سيارة تلامس النصف مليون جنيه، ولا يجد المصريون قطع غيار لسياراتهم القديمة الرديئة الغالية جدا، والتي هي أغلى من أسعار الجديد في دول دخلها أعلى بكثير، يروّجون أنهم ضاعفوا الحد الأدنى للأجور، بينما قيمته مقوّما بالدولار لا تزال كما هي، وقد تكون انخفضت، إذا أخذنا معدّلات التضخم الجنونية في الحسبان.
يبشّرون المصريين بأن السبع العجاف قد ولت، فيشير صديق إلى أن السبع الأعجف مقبلة. في الأخير، يجد المصريون أن الحكاية كانت أفضل في عهد محمد مرسي من العهد الحالي، وفي عهد حسني مبارك كانت أفضل من لاحقه، ويقلب المصريون كفّا على كف، قائلين إن عام 2023 كان مليئا بالحمد لله لمجيء الكهرباء تعبيرا عن الامتنان لمجرّد هذا، وانتظام جدول الانقطاعات الذي أصبح مقرّرا على الجميع، ليستيقظوا على ارتفاعات في أسعار تذاكر المترو وزيادات بتعريفات الكهرباء والإنترنت في أول أيام العام الجديد.