معارك استنزاف في الشرق الأوسط
لم تكفّ إسرائيل عن ضرب مطار دمشق الدولي، وهو نقطة الوصل الجوية بين إيران والمنطقة. ترغب إسرائيل في هذا بقطع الشريان الذي يمكن أن يُستعمل لتأمين وصول أسلحة وذخائر إلى حزب الله والمجموعات العسكرية المشابهة له والموجودة في سورية. كانت الضربات على المطار تتم بوتائر واضحة، فما أن تنتهي ورشات العمل من ترميم ما تحطّم في المطار حتى تعود الطائرات أو الصواريخ الإسرائيلية للهجوم عليه، ولا تغادر قبل أن تتأكّد أنه أصبح خارج الخدمة. طوّرت إسرائيل عملها اللوجستي النشط في إيقاف "الكوريدور" الجوي بين طهران ودمشق، باستهدافها الكادر البشري الذي يدير العملية، واستطاعت أن تصيب رضي موسوي، الرجل الذي يهندس هذه الرحلات، ويؤمّن دخولها وحركتها ضمن الأراضي السورية. ولم تخفِ إيران مصابها في مقتل جنرالها العسكري في سورية، فقد أقامت له صلاة جنازة حضرها الآلاف، وتوعّد فيها القادة الإيرانيون بالانتقام للرجل. قد يبدو الحدث كسرا لروتين التراشق الإيراني الإسرائيلي بتوسيع إسرائيل دائرة أهدافها لتشمل قادة مهمين. ورغم عدم إعلان إسرائيل مسؤوليتها عن العملية، إلا أن التعهد الإيراني يمكن أن يجعل المنطقة تستعد لجولة مختلفة في الحرب الدائرة بالفعل، بعد أن أدخلت إسرائيل تعديلات "مستفزّة" على قائمة أهدافها.
حافظ كل من الطرف الإسرائيلي والطرف الإيراني، بواسطة أذرعه التي يسيطر عليها في سورية ولبنان واليمن، على تصاعد مدروس، وبدا الرئيس الأميركي حريصا على عدم التوسعة، فلم يجعل النشاط المعادي للتجمّعات العسكرية الأميركية في العراق الجبهات تشتعل خارج غزّة، ومارست كل الأطراف بإرادتها نوعا من إدارة صامتة للصراع تبقيه على ذات النار الهادئة، ومن دون أن تنقله إلى مراحل المواجهة الشاملة، ولم يتسبّب دخول الحوثيين إلى المشهد باعتراض السفن التي تبحر قبالة سواحل اليمن في البحر الأحمر في توسع المعركة لتصبح حربا كبرى. وظلّ التوتر يشكل نقاطا ساخنة، قال نتنياهو إنها ست، في الضفة الغربية وقطاع غزّة وسورية ولبنان والعراق واليمن. وقد تبدو الحرب واسعة بالفعل، بوجودها في هذه المناطق، ولكنها في الحقيقة حرائق تندلع وتخبو بينما تبقى الحرب بتقاليدها المعروفة مقتصرة على غزّة، حيث تشارك وحدات قصف بعيد، برّي وبحري وجوي، وتدخل المدرّعات وينتشر المشاة بعد تمشيط ناري، فيما تقتصر الحالة في الجبهات الأخرى على تراشق محدود في الزمان والمكان يمكن استيعابه، كما يمكن استيعاب مقتل رضي موسوي نفسه.
تتوسّع الحرب حاليا في غزّة من الشمال إلى الوسط والجنوب، وأصبح القطاع كله في حالة حربٍ شاملة، وجزء كبير من الجيش الإسرائيلي منهمكٌ في الحرب المباشرة أو المساندة. ورغم ذلك، يهدد الوزير الإسرائيلي غالانت بتوسيع الحرب على الجبهة اللبنانية لمواجهة حزب الله، ويردّد نتنياهو التهديد نفسه. لدى الجيش الإسرائيلي الخبرة الكافية على الجبهة اللبنانية، وكان قد خاض حربا عام 2006 ضد الحزب، وانتهى بانتصار دبلوماسي وصدور قرار من مجلس الأمن يجبر حزب الله على التراجع إلى ما وراء نهر الليطاني، ولكن القرار لم ينفّذ، وبعد شهر من تلك الحرب، وجدت الأطراف لنفسها في النهاية مخرجا، كان الجميع سعداء به. اختلفت الظروف والمعطيات الآن، فإسرائيل مطعونة في كبريائها الأمني، وتعرف أن غريمتها هي "حماس"، وتطبق عليها أقصى ما تستطيع من قوّة، لكنها أيضا تؤدّي ما عليها في بقية الجبهات، أما إشعال حربٍ جديدةٍ على حدود لبنان تزامنا مع ما يحصل في غزّة فيمكن أن ينهك الجميع، ولدى الولايات المتحدة حرب أخرى في أوروبا الشرقية ما زالت مشتعلة. لذلك ترغب بإبقاء المعارك محصورة في غزّة، وهي تدرك، وإسرائيل أيضا تدرك، أن قتل رضي موسوي خطوة إجرائية ضمن خطّة الاستنزاف البطيء التي تجري بالتوازي مع حرب غزّة، ولكن هذا لا يكفي للبدء بفتح جبهة أخرى.