معارك التنوير الورقية في مصر
اندلع جدل ساخن في الفضاءين، الثقافي والإعلامي، في مصر، في الأيّام الماضية، عقب إعلان المسرح القومي اعتزامه تقديم مسرحيّة عن سيرة الشيخ محمد متولي الشعراوي، في شهر رمضان المقبل، عبر مبادرة "مسرح السيرة". فبمجرّد إعلان المسرح القومي الأمر، انبرت شخصياتٌ فنية وثقافية عديدة لمهاجمة الفكرة، ورفض تقديم سيرة الشيخ الشعراوي بصورة قاطعة في عمل مسرحي. وعلى الفور أشهر "التنويريون" إيّاهم أسلحتهم ودخلوا مرمى الهجوم، حيث رأوا أن الفكرة تمثّل ردّة ورجعية، ولم يفوتوا الفرصة فأمطروا الشيخ بوابلٍ من الاتهامات، بدءاً من "الوهابية"، ومروراً بدعم التطرّف، وانتهاءً بـ"الداعشيّة"! ولم تهدأ ثائرة هؤلاء حتى خرجت وزيرة الثقافة، نيفين الكيلاني، وقالت إن على الشعراوي "تحفظات" كثيرة، وإنّ طرح شخصيته كان على سبيل المثال، مؤكّدة أنه "يجب اختيار شخصيّات تنويريّة مؤثّرة في المجتمع، لعرضها في الأعمال المسرحيّة لمكافحة الفِكر المتطرّف" حسب قولها. ومع تزايد وتيرة الهجمة الشرسة على الشعراوي، الرمز الأزهري الأشهر والأبرز في نصف القرن الأخير، والمُلقَّب بـ"إمام الدعاة"، لم يجد الأزهر بُدّاً من التدخّل لتوضيح الصورة، فنشرت الصفحة الرسميّة له على موقع "فيسبوك" وقالت: "الشيخ الشعراوي وهب حياته لتفسير كتاب الله، وأوقف عُمره لتلك المهمّة، وأوصل معاني القرآن لسامعيه بكلّ سلاسة وعذوبة، وجذب إليه الناس من مُختلَف المستويات، وأيقظ فيهم مَلَكات التلقي".
بدايةً، يتعيّن التأكيد أنه لا قداسة لأحد، وفقاً لقول الإمام الذهبي "فَلاَ عِصْمَةَ إِلاَّ لِلْمَلاَئِكَةِ وَالنَّبِيِّيْنَ، وَكلُّ أَحَدٍ يُصِيْبُ وَيُخْطِئُ، وَيُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ، سِوَى النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ مَعْصُوْمٌ، مُؤَيَّدٌ بِالوَحْي". ولكن الفارق يظلّ واسعاً بين إبداء الاختلاف مع الآخرين، من دون بخسهم أقدارهم، والنيْل منهم بالتطاول والطعن، ومحاولة التشويه والتسقيط، وتصفية الحسابات والثارات القديمة، والأدهى أن يكون هذا بطريقةٍ ملتويةٍ عبر الكذب والافتراء، بالزور والبهتان.
تعرّض الشيخ محمد متولي الشعراوي، بالتحديد، في السنوات الأخيرة لحملاتٍ ممنهَجة، استهدفت تشويهه وتسقيطه بصورة فجّة، عبر إقحامه وزجّ اسمه، تحت زعم أن دروسه وكتبه سبب أساسي من أسباب انتشار التطرّف، أو أنّه هو الذي مهّد الطريق أمام جماعات الإسلام الحركي وتنظيماته، كي تنشر أفكارها، وتوسّع مساحة انتشارها... لكنّ الأمر هذه المرّة هبط إلى مرحلةٍ بالغة التدنّي عندما وصمه أحد "التنويرييّن" إيّاهم بـ"الداعشيّة"!!
اكتشف الشعراوي حقيقة طموح جماعة الإخوان المسلمين الذي يخرج عن مسألة الدعوة الدينيّة، وأنّ الموضوع صراع سياسي، و"أقليّة وأغلبيّة"، فاتّخذ قراره بالابتعاد عن الجماعة
ما زال الشيخ الشعراوي يحظى باحترام وتقدير جارفَين في الوجدان الشعبي للملايين في المجتمع المصري. ليس هذا فحسب، بل إنّه يحظى بتقدير كبير داخل مؤسّسات الدولة المصرية، فالرجل ما زالت محطّاتٌ وإذاعاتٌ رسميّةٌ تبثّ دروسه وأدعية بصوته بصورة يوميّة، رغم مرور سنواتٍ طويلةٍ على رحيله، ما ينفي أي شبهة تطعن في وسطيّة منهجه، فالواقع يُخبرنا أنّ الشعراوي مثّل، وما زال، ساتراً مانعاً من الوقوع في براثن التطرّف.
الحقيقة أنّ وصم الشيخ بـ"الوهّابية" يدلّ على جهل عميق في المقام الأوّل، فسيرة الشعراوي من الذيوع والشهرة بمكان تقول إنّه كان أزهريّاً ذا نزعة صوفيّة بادية غير خافية، وأنّه لا يحظى بقبولٍ لدى الشيوخ المُتنطِّعين المُتسلِّفين من أرباب فقه "اللحية والنقاب"، حيث يصفه كثيرون منهم بـ"الصوفي القبوري"، ويرميه بعض آخر بـ"الابتداع"، بل يخرجه من زمرة العُلماء!!
أمّا وصفه بـ"الداعشيّة" فهو محضُ افتراء، فمن المعروف أن الشيخ لا يحظى باستحسانٍ لدى أتباع جماعات الإسلام الحركي وتنظيماته، السلميّة منها والعنيفة، لأسبابٍ متعدّدة، كذلك له مواقف حاسمة عديدة إبّان موجة العمليات الإرهابيّة التي شهدتها مصر في التسعينيّات، إثر الصدام العنيف الذي وقع بين الدولة المصريّة وجماعتي "الجماعة الإسلاميّة" و"الجهاد"، إلى درجة أنّ وصفه بعضهم من قيادات تلك الجماعات بأنّه من "علماء السُّلطة"!
تجدر الإشارة إلى أنّ الشعراوي بدأ وفديّاً في شبابه، وكان مُحبّاً لزعيم الحزب مصطفى النحّاس باشا، وكثيراً ما تصدّى لخصومه عندما كان من زعماء طلبة الأزهر، ثمّ انضمّ إلى جماعة الإخوان المسلمين إبّان ظهورها قبل توجهها إلى العمل السياسي، بيْد أنّه سرعان ما خرج منها بعد واقعةٍ كانت فاصلةً كاشفةً بالنسبة إليه عن حقيقة الجماعة.
لا يحظى الشعراوي باستحسانٍ لدى أتباع جماعات الإسلام الحركي وتنظيماته، السلميّة منها والعنيفة
وقد وردت تلك الواقعة التي تعود إلى عام 1938، في كتاب "الشعراوي الذي لا نعرفه"، الصادر في نوفمبر/ تشرين الثاني 1995 (قبل وفاة الشيخ، وهو ما يعزّز من مصداقيّته) عن دار "أخبار اليوم"، وخلاصتها أنّ الشعراوي شارك في احتفال الوفد بذكرى سعد زغلول باشا، وألقى قصيدة في تلك المناسبة، فتلقّى عتاباً غاضباً من حسن البنّا، ثمّ استوقفه تحامل بعضهم من "الإخوان" على النحّاس، واصفين إياه بأنّه "العدوّ الحقيقي" للجماعة، لأنّه زعيم الأغلبيّة، خلاف بقيّة الأحزاب، فاكتشف الشعراوي حقيقة طموح الجماعة الذي يخرج عن مسألة الدعوة الدينيّة، وأنّ الموضوع صراع سياسي، و"أقليّة وأغلبيّة"، فاتّخذ قراره بالابتعاد عن الجماعة. وقد ألقت تلك الواقعة بظلالٍ كثيفةٍ على علاقة الشعراوي بالجماعة، ففي فترة ما سُميت "الصحوة الإسلاميّة" في السبعينيّات، خرجت مجلّة "الدعوة" الناطقة باسم الجماعة في أكثر من عدد، وقد حمل غلافها صورة الشعراوي وهو يُدخّن، لا لشيءٍ سوى النيْل منه، والإساءة إلى صورته لدى جمهوره العريض.
دعنا من أنّ تلك الحملات المُمَنهَجة تجاه الشعراوي تأتي بعد مرور نحو ربع قرن على رحيله، وهي نقطة مثيرة للتعجّب، تدلّ على مدى حضور الرجل في المجال الديني لدى محبّيه وشانئيه على السواء، ودعنا أيضاً من أنها تأتي في وقتٍ يئنّ فيه المجتمع من أزمة اقتصاديّة خانقة، أدّت إلى موجةٍ من الغلاء الفاحش، سبقها بفترة تأميم المجال العام بصورة خشنة.
بيْد أن اللافت هنا، أن الوجوه "التنويريّة" المُتمسّحة بأهداب الليبراليّة وبالعقل النقدي، رغم تحالفها مع الاستبداد السياسي، بشتّى نُسَخه، التي كالت الاتهامات للشعراوي، هي نفسها التي تصدّرت المشهد في جدالات سابقة (هي نفسها التي ما فتئت تكيل الاتهامات للأزهر ولشيخه، ولكلّ رموزه وتصفه بأنّه معقل الرجعيّة والتطرّف!) أتحفتنا فيها بآراءٍ "تنويريّة" كان القاسم المشترك فيها أن استبطنت خطاباً استشراقيّاً استعلائيّاً يحتقر الثقافة السائدة في المجتمع، ويتصادم مع عموم الناس، حمل مكايدات طفوليّة رعناء لخصومهم الإسلاميّين، من دون التبصّر في مدى كارثيّة مآلات تلك الحماقات "التنويريّة".