معاوية بين سيفي الطائفية
أن يُخصَّص عملٌ فني درامي لشخصيات دينية أو سياسية تاريخية فهذا مفيد معرفياً، ليس لما لهذه الأعمال من دور تثقيفي في التعريف بالشخصية وبيئتها التاريخية لدى الجمهور العام فحسب، بل أيضاً لنزع القداسة أو شبه القداسة التي أحاطت بشخصيات تاريخية أو بمراحل تاريخية في المخيلة الجمعية الإسلامية.
هكذا، سلطت ثلاثية الأندلس (صقر قريش، ربيع قرطبة، ملوك الطوائف)، و"صلاح الدين الأيوبي"، وعمر" للسيناريست وليد سيف والمخرج حاتم علي، وغيرها من أعمال درامية تاريخية، الضوء على شخصيات ومراحل تاريخية ليست في موضع خلاف، ضمن قالب درامي لا يحمل إسقاطات أيديولوجية أو مذهبية راهنية، سوى الإسقاطات السياسية التي يُرام منها إطلاع الجمهور على تاريخه، بما فيه وما عليه، للاستفادة منه في الحاضر والمستقبل.
يلعب التلفزيون ووسائل التواصل الاجتماعي دوراً مهماً في التأثير على الرأي العام وتوجيهه، من خلال طرح أفكار سياسية واجتماعية وتاريخية وثقافية معينة ومنتزَعة من سياقها التاريخي والمعرفي، بما يؤدّي إلى نشوء انطباعاتٍ عامة لدى الجمهور المتلقّي تتحوّل إلى مخيال اجتماعي، والمخيال الاجتماعي مجالٌ تسودُه القناعة، وليس مجالا تسودُه المعرفة. وبهذا المعنى، أحد أهم الأهداف الكبرى للأعمال الدرامية من هذا النوع هو تقديم مادّة معرفية مبنية على حقائق موضوعية، لا أن تكون مادّة دراميةً لأغراض أيديولوجية، كما كان الأمر مع مسلسل "عمرو بن العاص" الذي قال عنه نور الشريف (أدّى دور البطولة) إنّه أنتج لتلميع صورة معاوية بن أبي سفيان الذي يجب أن تُعرض شخصيته، في عمل فني درامي عنه، ضمن سياقها التاريخي الذي ظهرت فيه، وهو سياقٌ معقّد حُمّل بمضامين أيديولوجية من الطرفين السنّي والشيعي.
المشكلة في انعدام الثقة بين الطرفين، السنّي والشيعي، كما بيّنته ردود الفعل المدافعة عن المسلسل والمناهضة له
مع ذلك، ثمّة ثوابتُ لا خلاف عليها، هل تستطيع قناة مثل "MBC" تقديمها للمشاهد العربي، مثل تقديم الإجماع السنّي، على مستوى علماء الدين والمفكّرين المعاصرين، المؤيد لعليّ بن أبي طالب ضد معاوية في معركة صفّين، وفي مجمل الخلاف السياسي آنذاك؟ وهل تستطيع القناة إظهار البعد الاستبدادي في حكم معاوية، من حيث تأسيسه المُلك العضوض من خلال عملية التوريث التي ظلت جاثمة على المجال السياسي العربي قروناً طويلة، ولا تزال؟ وهل تستطيع القناة الحديث عن عمليات القمع والإبعاد تجاه معارضي خلافة معاوية؟
من السابق لأوانه اتهام الجهة المنتجة لهذا العمل الفني (مجموعة MBC) ابتعادها عن الحيادية والموضوعية التاريخية، وأنها تسعى إلى استغلال الاستقطاب السياسي والمذهبي بين السعودية وإيران من أجل الوصول إلى عدد أكبر من أفراد المجتمع، بغرض التسويق الإعلامي والسياسي والأيديولوجي. لكنّ هذه الجهة، كما كتب الزميل معن البياري في مقالة في "العربي الجديد" (28/2/2023) ليست موصوفة بفائض النزاهة والموضوعية في خياراتها الإنتاجية، فضلاً عن افتقار كاتب السيناريو، خالد صلاح، إلى التجربة التاريخية في هذا المجال. وربما لهذا السبب، طالب الزعيم العراقي مقتدى الصدر بوقف بث المسلسل، وإن لم تحمل سطورُه هذا المطلب، فاكتفى بالقول إنّ "معاوية يمثل رأس الفتنة الطائفية، وأول من سنّ سبّ الصحابة، وأول من خرج عن إمام زمانه وشقّ صف الوحدة الإسلامية، وأول من قتل الصحابة". ويضيف الصدر في منشور آخر رفضه المساواة بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان.
أن يتّصف مؤسّس الدولة الأموية وأول خلفائها معاوية بهذه الصفات فهذا ليس سبباً لمنع إنتاج أعمال درامية عنه، بل ربما يكون هذا سبباً وجيهاً لأعمالٍ تضيء على مثل هذه الشخصية الإشكالية ودورها في مرحلة حاسمة من التاريخ السياسي الإسلامي، وإزالة الركام الأيديولوجي عنها. إنما المشكلة في انعدام الثقة بين الطرفين، السنّي والشيعي، كما بيّنته ردود الفعل المدافعة عن المسلسل والمناهضة له، بما يشير إلى أنّ اللاشعور الجمعي عند الغالبية من الطرفين هو إبراز ما هو طائفي ومذهبي في العمل السياسي أو حتى في العمل الفني. وقد برز ذلك في ردود الفعل غير العقلانية من كلا الطرفين: فضائية الشعائر العراقية تقرّر إنجاز فيلم عن أبي لؤلؤة، في موقفٍ يدعو إلى الدهشة ويثير الريبة تجاه شخصيةٍ غير إشكالية لا خلاف بشأن قتله الخليفة الثاني عمر بن الخطاب الذي يحمل في الوعي السنّي مقاماً رفيعاً... في المقابل، تهكّم أحد المدافعين عن مسلسل "معاوية" وعن الجهة المنتجة، على رفض مقتدى الصدر مساواة معاوية بعلي: "...التحم ذوق الإخوان المسلمين وتفرّعاتهم، كما اليسار، مع الذوق الشيعي في شيطنة معاوية وكلّ الأمويين".
تلقى الأعمال التاريخية ـ الدينية اهتماما شعبيا كبيرا، ليس لأنها تعرض مادّة معرفية وتاريخية فحسب، بل لأسبابٍ أيديولوجيةٍ تدغدغ المشاعر
نحن هنا أمام موقف أيديولوجي طائفي ممتلئ بالدوغمائية، من حيث يصعب، إن لم يكن مستحيلاً، مساواة معاوية بعلي أحدهما مع الآخر، فقد شكل علي بن أبي طالب في الذاكرة التاريخية والدينية السنية، ناهيك عن الشيعة، مكاناً مرموقاً من الناحيتين الاجتماعية والدينية، وربما تكون كلمات هشام جعيّط في مؤلفه الهام "الفتنة الكبرى: جدلية الديني والسياسي في الإسلام المبكّر" تعبيراً عن هذه المكانة: "هناك ثلاثة أوجه لعلي، هي علي الإيمان، علي الأسطورة، علي التاريخ"، في حين يذكُر التاريخ معاوية بثلاثية أخرى: الداهية، السياسي، المستبد (الملك العضوض).
تلقى الأعمال التاريخية ـ الدينية اهتماما شعبيا كبيرا، ليس لأنها تعرض مادة معرفية وتاريخية فحسب، بل لأسبابٍ أيديولوجيةٍ تدغدغ المشاعر بشأن الزمن الذهبي للتاريخ العربي ـ الإسلامي مقابل الواقع المزري الراهن، ولأنها تعزّز السرديات المتخيّلة في الوعي الجمعي.
لهذا السبب، على الأعمال الفنية التاريخية ـ الدينية أن تتّصف بالموضوعية العلمية التاريخية، لا أن تكون أيديولوجيةً تؤجّج النزاع الطائفي، إلا في حالة واحدة، وهي أن يكون هدف هذه الأعمال توحيد الثقة المذهبية والطائفية وبناءها في هذه المرحلة التاريخية. ولأجل هذا الهدف، يكون مقبولاً التعتيم على مواقف معينة من التاريخ والإضاءة على أخرى، طالما كانت الغاية تحقيق منفعة عامة في الحاضر. ومن غير المعروف ما إذا كان هذا الهدف موجوداً ضمن المفكَّر فيه لدى الجهة المنتجة للمسلسل الدرامي التلفزيوني "معاوية".