09 نوفمبر 2024
معذّبو الأرض
بشير البكر
بشير البكر كاتب وشاعر سوري من أسرة "العربي الجديد" ورئيس تحرير سابق
في مطار مدريد، على باب الانتظار، لركوب الطائرة المتوجهة إلى داكار، أول ما يطالعك اختلاف الأفارقة العائدين إلى القارة عن غيرهم من المسافرين في الشكل والمضمون، فالملابس المزركشة الضاجّة بألوان الطبيعة البكر توحي بأنهم الشعب الكوني الوحيد الذي لم يعرف النقلات السريعة، على غرار شعوب باقي القارات، كأنهم لم يأخذوا نصيبهم من نعمة التطورات التي شهدها العالم في العقدين الأخيرين، حتى يبدو، أحيانا، أن الحداثة في صيغتها الراهنة لم تنفذ إلى أعماق حياته وتفكيره.
وحدها أفريقيا لم تتبدّل ملامحها، ولا تزال حزينة. ويزيد الانتظار في صالة المطار من حزن الأفارقة، فيجعله رتيبا، يخفي قلقاً عميقاً خلف نظارتين شمسيتين، وهذا ما يلاحظه المرء بكثرة تصل إلى حد التشابه القاتل، وعلى الرغم من أن المنتظرين، هنا، لا يختلفون عن أي منتظرين آخرين في أية محطة أخرى، من أي زمن آخر، فإن لانتظار الأفارقة طعماً دهرياً.
ينتظر الأفارقة، منذ وقت طويل، القطار الذي يأخذهم نحو المستقبل الأخضر، قاتلوا الاستعمار وطردوه، لكي تبقى القارة عذراء، لكنه عاد من النوافذ محمولاً على ظهور عسكر ورجال أعمال وسياسيين فاسدين من الذين رضعوا حليب الكولونيالية التي ناضلت ضدها النخب الأفريقية وحركات التحرّر في مرحلة المد التحرّري في الخمسينات.
قديماً، كان هناك وزير فرنسي يحمل اسم "السيد أفريكا"، تقتصر مهمته على تنظيم عملية السطو الرسمي على ثروات القارة. وبرع الاستعمار في نهب أفريقيا ورمى الفتات لموظفيه المحليين من أبناء البلاد الذين حماهم بالقواعد العسكرية وأنظمة الاستخبارات. وعلى الرغم من مرور زمن طويل، لم تتغير القاعدة إلا من حيث الشكل، حيث ظلت أفريقيا تعاني من المشكلات نفسها التي أورثها لها الاستعمار، حين سحب جيوشه ورحل، وتكفي موازنة واحدة من شركات صناعة الأسلحة لحل كل مشاكلها.
معذبو الأرض، هكذا وصفهم المارتينيكي فرانز فانون، يشكلون النسبة الكبرى من سكان القارة، حيث يفتك الثالوث اللعين، الفقر والمرض والبطالة. وتصل نسبة البطالة إلى مستويات خرافية، ونظراً لفرط وقع الأرقام، يفضل كثيرون عكس الجملة، كي لا يجري تداول رقم نسبة البطالة، والاكتفاء بالإشارة إلى أن عدد الحاصلين على وظائف تبلغ 10 في المائة.
الأفارقة العائدون من أوروبا موزعون بين هنا وهناك، وحينما يرجعون إلى بلادهم، فإنهم يفعلون ذلك من أجل إحياء الصلة مع الجذور التي تركوها هنا، ولأنهم لم يتجذّروا في البلاد الأخرى التي قصدوها من أجل حياة أفضل.
كل شيء متوافر في أفريقيا، الأراضي الخصبة والطقس الجميل، البحار والأنهار والبحيرات، الزراعة والصيد والنفط. وعلى الرغم من ذلك، لا تزال القارة جائعة، لأن أهلها لا يملكون مقدراتها، لكن هذا الوضع الصعب ليس قدراً نهائياً لأي بلد من بلدانها، وأثبتت شعوب عديدة أن في وسعها تقديم نموذج مختلف، يتجلى في أبهى صوره بالنموذج السنغالي، البلد الذي يدين نحو 90 في المائة من سكانه بالإسلام، وحين استقل عن فرنسا عام 1960 حكمه رئيس مسيحي. ومنذ ذلك الحين، تعاقب على رئاسة البلد أربعة رؤساء مدنيين، وسارت التجربة على نحو يختلف عنه في بلدان القارة الأخرى التي شهدت انقلاباتٍ عسكرية.
ويدرك قادة السنغال، اليوم، أهمية هذا الاستقرار المديد الذي عاشته بلادهم، بفضل احترام التداول السلمي على السلطة، وبناء دولة المؤسسات والنظام والقانون، فهذا الرصيد الثمين تتم ترجمته من خلال ثقة العالم الخارجي الذي يتعاطى مع هذه الدولة بوصفها ركيزة أساسية من ركائز الاستقرار في أفريقيا، في وقت تشهد فيه القارة تحدّيات كبيرة، تتجاوز الفقر والمرض إلى استشراء داء الإرهاب والتطرف، وتثبت السنغال، جارة مالي التي تدهورت بعد انتشار القاعدة و"داعش"، أن الحل في الديمقراطية، وأن الديمقراطية ليست زبدا، بل هي مما يمكث في الأرض وينفع الناس.
وحدها أفريقيا لم تتبدّل ملامحها، ولا تزال حزينة. ويزيد الانتظار في صالة المطار من حزن الأفارقة، فيجعله رتيبا، يخفي قلقاً عميقاً خلف نظارتين شمسيتين، وهذا ما يلاحظه المرء بكثرة تصل إلى حد التشابه القاتل، وعلى الرغم من أن المنتظرين، هنا، لا يختلفون عن أي منتظرين آخرين في أية محطة أخرى، من أي زمن آخر، فإن لانتظار الأفارقة طعماً دهرياً.
ينتظر الأفارقة، منذ وقت طويل، القطار الذي يأخذهم نحو المستقبل الأخضر، قاتلوا الاستعمار وطردوه، لكي تبقى القارة عذراء، لكنه عاد من النوافذ محمولاً على ظهور عسكر ورجال أعمال وسياسيين فاسدين من الذين رضعوا حليب الكولونيالية التي ناضلت ضدها النخب الأفريقية وحركات التحرّر في مرحلة المد التحرّري في الخمسينات.
قديماً، كان هناك وزير فرنسي يحمل اسم "السيد أفريكا"، تقتصر مهمته على تنظيم عملية السطو الرسمي على ثروات القارة. وبرع الاستعمار في نهب أفريقيا ورمى الفتات لموظفيه المحليين من أبناء البلاد الذين حماهم بالقواعد العسكرية وأنظمة الاستخبارات. وعلى الرغم من مرور زمن طويل، لم تتغير القاعدة إلا من حيث الشكل، حيث ظلت أفريقيا تعاني من المشكلات نفسها التي أورثها لها الاستعمار، حين سحب جيوشه ورحل، وتكفي موازنة واحدة من شركات صناعة الأسلحة لحل كل مشاكلها.
معذبو الأرض، هكذا وصفهم المارتينيكي فرانز فانون، يشكلون النسبة الكبرى من سكان القارة، حيث يفتك الثالوث اللعين، الفقر والمرض والبطالة. وتصل نسبة البطالة إلى مستويات خرافية، ونظراً لفرط وقع الأرقام، يفضل كثيرون عكس الجملة، كي لا يجري تداول رقم نسبة البطالة، والاكتفاء بالإشارة إلى أن عدد الحاصلين على وظائف تبلغ 10 في المائة.
الأفارقة العائدون من أوروبا موزعون بين هنا وهناك، وحينما يرجعون إلى بلادهم، فإنهم يفعلون ذلك من أجل إحياء الصلة مع الجذور التي تركوها هنا، ولأنهم لم يتجذّروا في البلاد الأخرى التي قصدوها من أجل حياة أفضل.
كل شيء متوافر في أفريقيا، الأراضي الخصبة والطقس الجميل، البحار والأنهار والبحيرات، الزراعة والصيد والنفط. وعلى الرغم من ذلك، لا تزال القارة جائعة، لأن أهلها لا يملكون مقدراتها، لكن هذا الوضع الصعب ليس قدراً نهائياً لأي بلد من بلدانها، وأثبتت شعوب عديدة أن في وسعها تقديم نموذج مختلف، يتجلى في أبهى صوره بالنموذج السنغالي، البلد الذي يدين نحو 90 في المائة من سكانه بالإسلام، وحين استقل عن فرنسا عام 1960 حكمه رئيس مسيحي. ومنذ ذلك الحين، تعاقب على رئاسة البلد أربعة رؤساء مدنيين، وسارت التجربة على نحو يختلف عنه في بلدان القارة الأخرى التي شهدت انقلاباتٍ عسكرية.
ويدرك قادة السنغال، اليوم، أهمية هذا الاستقرار المديد الذي عاشته بلادهم، بفضل احترام التداول السلمي على السلطة، وبناء دولة المؤسسات والنظام والقانون، فهذا الرصيد الثمين تتم ترجمته من خلال ثقة العالم الخارجي الذي يتعاطى مع هذه الدولة بوصفها ركيزة أساسية من ركائز الاستقرار في أفريقيا، في وقت تشهد فيه القارة تحدّيات كبيرة، تتجاوز الفقر والمرض إلى استشراء داء الإرهاب والتطرف، وتثبت السنغال، جارة مالي التي تدهورت بعد انتشار القاعدة و"داعش"، أن الحل في الديمقراطية، وأن الديمقراطية ليست زبدا، بل هي مما يمكث في الأرض وينفع الناس.
بشير البكر
بشير البكر كاتب وشاعر سوري من أسرة "العربي الجديد" ورئيس تحرير سابق
بشير البكر
مقالات أخرى
02 نوفمبر 2024
26 أكتوبر 2024
19 أكتوبر 2024