معركة الأقصى وحروب كرة القدم
كانت السبت، ليلة الصدام الهائل، بين ليفربول الإنجليزي وريال مدريد الإسباني، فانقسمت الأمة بين ولائين وانتمائين، وانبعثت براكين تقذف حممًا من مفردات ومفاهيم ضخمة، عن الوطنية، والخيانة، ودار صدامٌ آخر بين الوطنيين جدًا، والأمميين للغاية، وبقيت فوهة البركان مشتعلة، في اليوم التالي: يوم القدس والمسجد الأقصى، حيث هجمت قطعان المستعمرين محمولين فوق ألواح التطرّف والغل، يحتلون الأقصى ويعربدون في ساحاته، تحت حراسة جيش الاحتلال وشرطته.
وطيس معركة ملعب فرنسا، بين الفريقين الإنجليزي والإسباني، كان لا يزال هادرًا وطاغيًا، على الرغم من انتهاء المواجهة وإعلان المنتصر والمهزوم، وفي حين هدأ كلّ شيء في ليفربول ومدريد، بقي القتال مشتعلًا على جبهة العرب، فيما كان بنيامين نتنياهو يعلن الانتصار في عملية انتهاك المسجد الأقصى.
يوم أحد الاقتحام، طعنت الأمة كلها في أغلى وأقدس ما تملك، لكن حرارة الصراع الكروي كانت كافية لتخفيف حدّة الألم من الجرح الأعمق في الجسد العربي منذ العام 1969، فكان الحزن على ضياع الحلم المعلّق بقدمي اللاعب محمد صلاح، عند بعضهم، أشدّ من الحزن على نجاح الصهيوني في الانتقام من الناصر صلاح الدين الأيوبي.
عبر يوم الأحد، وعبر الصهاينة فوق الكرامة العربية من المحيط إلى الخليج، وبالكاد انتزع الجمهور نفسه من آثار المعركة الكروية في ملعب فرنسا، ووجد لحظات يتذكر فيها القدس والأقصى، ويستشعر جرحه العميق.
حتى جاء الاثنين مبكرًا، لتنشطر الأمة كرويًا، مرة أخرى، بين الوداد المغربي والأهلي المصري، لتتوارى القدس، ويهون جرح الأقصى تحت تأثير شلالات أدرينالين كرم القدم المتدفقة في أوصال المواطن العربي، فيصبح لا صوت يعلو فوق صوت معركة أبطال أفريقيا.
هنا تستعاد كل ثنائيات الانقسام والانشطار والصراع المحمّل بكلّ انبعاثات التعصّب، والولاءات والانتماءات الوطنية، الفارغة من أي مضمون أو قيمة حقيقية، ليصبح انتصار الوداد عند جمهوره أغلى من صمود الأقصى، ويصير انكسار الأهلي عند جمهوره أقسى من عبور مسيرة الأعلام الصهيونية فوق الكرامة القومية.
بالكاد، تنقل الصور المتداولة لمدرجات جماهير الملعب علمًا لفلسطين، يطلّ على استحياء وسط زحام الحناجر التي تهتف للفريقين بجنون. لم يحضر العلم الفلسطيني بربع حضوره في مناسبات ومواجهات كروية عربية سابقها، لعل آخرها ما شهدته ملاعب الدوحة في بطولة كأس العرب التي أقيمت في نوفمبر الماضي، حيث تنافست الجماهير في رفع أعلام فلسطين في ملاعب البطولة التي كان اسمها قديمًا "كأس فلسطين"، ولم يخدش بهاء اللقطات المنقولة من ملاعب قطر وجمالها سوى هذا الإقحام المقصود لمدرّب صهيوني في أنشطة البطولة، وظهور علم الكيان المحتل على قمصان لاعبين وإعلاميين عرب ابتلعوا تلك الإهانة لفلسطين وللشعور القومي العام، وارتضوا المشاركة في استعراضٍ يقوده المدرب الصهيوني.
كاتب هذه السطور ليس ممن يحتقرون كرة القدم، أو ينظرون إليها بوصفها من أسلحة الإلهاء، وقد سجّلت ذلك مرارًا، وقلت إني، شخصيًا، أحبّ كرة القدم، لعبًا وتشجيعًا وتحليلًا، فهي متعة حقيقية، ونشاط إنساني بديع تلمع من خلاله مهارات وقدرات مدهشة خلقها الله في البشر، ولا أخفي انحيازي لفرقٍ وأندية، محلية ودولية، لكنني لست ممن يجعلون كرة القدم جزءً من الهوية الوطنية ومعيارًا للانتماء والإخلاص للوطن، وميدانًا لمعارك التعصب القبلي والعنصرية بين الشعوب، وأحيانًا بين أبناء الشعب الواحد.
لكن في المقابل، لا أستطيع أن أخفي فزعي من مستقبلٍ، يتشكّل الآن، تمر فيه مسيرة احتلال المسجد الأقصى، الواقع تحت الاحتلال أصلًا، فلا تثير في الجمهور العربي من الألم والغضب والحماس والتفاعل نصف ما تثيره مواجهاتٌ كرويةُ في بطولات عالمية أو قارّية، وكأن مقولة المفكر السوري، الراحل الطيب تيزيني: "سحبوا السياسة وكرّسوا كرة القدم" تتحقّق وتتكرّس وتفرض نفسها واحدًا من أقانيم الانتماء الوطني المزيف.
صارت كرة القدم أنجح أشكال الاستثمار السياسي لدى مستبدّين يربطون الوطنية بأقدام اللاعبين ويلعبون برؤوس الجماهير في المستطيل الأخضر، فإذا أفاق الجمهور من خدر الهتاف للكرة، وهتف للحرية والعدل والديمقراطية، قتلوه وأراقوا دمه على حشيش الملاعب، كما جرى مع جمهور الأهلي في بورسعيد 2012، ثم مع جمهور الزمالك في ستاد الدفاع الجوي 2015.