معركة تنادي شيخ الأزهر
نحن الآن بصدد المرحلة الأخطر من حرائق التاريخ، إذ ينفرد الصهيوني بتسييد روايته عن فلسطين، الأرض والبشر والمقدّسات، معربدًا في سراديب التاريخ المزيّف، من دون أن يوقفه أحد أو يتصدّى له بجدّية، وكأنه صار هناك تواطؤ بالصمت مع الجريمة الأعنف بحقّ الأجيال الجديدة.
كل الصهاينة، من رئيس حكومة الاحتلال إلى وزير الأمن الإرهابي، مرورًا بطبقة الحاخامات والسياسيين، من اليسار واليمين، محتشدون الآن في المعركة الأخطر: إسقاط الرواية الفلسطينية والعربية للمأساة وإشعال النار في الذاكرة، من أجل اعتماد الرواية الصهيونية (المؤسطرة) تاريخًا وحيدًا للأرض. وفي ذلك يدشّنون المرحلة الأوضح من اعتبار الصراع في فلسطين معركة دينية بالأساس، إذ بات الخطاب الإسرائيلي مركّزًا على نفي فلسطينية فلسطين، وبالضرورة نفي ملامح شخصيتها الإسلامية والمسيحية، لتكون خالصةً لليهود.
بات محور خطاب نتنياهو وحكومته هو الهيكل، مدخلًا تاريخيًا لفرض الهيمنة الصهيونية الكاملة على المسجد الأقصى والقدس المحتلة وفلسطين كلها، وبالتالي، اعتبار الوجود الفلسطيني على أرض فلسطين هو العدوان والاستيطان غير الشرعي.
ليس بعيدًا عن معركة تديين القضية الفلسطينية التي يخوضها الاحتلال الإسرائيلي بضراوة تصريحات وزير الداخلية الفرنسي التي يعلن فيها من أميركا أن "الإرهاب الإسلامي السني" هو أبرز تهديد لبلاده ولأوروبا كلها، وبالتبعية العالم كله، وفقًا لمنطق هذه الرؤية العنصرية العدوانية.
يجري ذلك كله بينما النظام العربي منشغلٌ بقضية وحيدة، هي إسقاط الرواية الحقيقية لثورات الشعوب العربية من الذاكرة، وإشعال النار فيها بتسييد سردية أنها كانت اعتداءً على سيادة الدول وأمنها واستقرارها. وعلى ذلك يجري تصنيف الأطراف الفاعلة فيها إرهابيين، لابد من استئصالهم من الوجود، في عناقٍ مدهشٍ مع السردية الصهيونية عن فلسطين، والتي تصنّف المقاومة إرهابًا.
والحال كذلك، واجب الوقت على المجامع الفقهية والمؤسسات الدينية الإسلامية، الرسمية منها والأهلية، هو تدشين جبهة موحدة للتصدّي للعدوان الصهيوني على ذاكرة التاريخ، تاريخ الأديان والشعوب، وعلى رأس هذه المؤسّسات يأتي الأزهر الشريف، الذي سيخلد له التاريخ دوره في ذلك، إن قام به، وهو الدور الذي أحسب أنه يستحقّ أن يكرّس له الإمام الأكبر، أمدّ الله في عمره، ما بقي من حياته، فالأمة بحاجةٍ إلى من يحمي مستقبلها من سموم الروايات الكذوب عن أقدس ما تملك، أكثر من حاجتها إلى لقطات خشوع وزهد مؤثّرة أمام الحرمين، المكي والنبوي، بينما تدور عملية انتهاك وسرقة ثالث الحرمين من دون ردّة فعل حقيقية من المعنيين به.
في الإطار ذاته، يتلفت الناس يمينًا ويسارًا بحثًا عن كيان اسمه "منظمة التعاون الإسلامي" كانت تسمّى حين أنشئت ردًا على إحراق المسجد الأقصى في العام 1969 منظمة المؤتمر الإسلامي، وهي، حسب تعريفها عن نفسها في موقعها الرسمي، تعدّ ثاني أكبر منظمة دولية بعد الأمم المتحدة، حيث تضم في عضويتها 57 دولة موزّعة على أربع قارات، فأين هي وأين دورها، أم أنها تقبع في متحف الأحياء الموتى بجوار كيانٍ آخر عاطل، اسمه جامعة الدول العربية؟
في معركة مصيرية بهذه الخطورة، لا يصح كذلك أن يتناول إعلام عربي القضية بتوصيفات من نوعية "الصراع الفلسطيني الإسرائيلي"، وكأنه يعلن رسميا التنحّي عن القضية مكتفيا بحالة حياد سويسرية مريحة، على الرغم من أن الرسميين العرب لا يزالون يلوكون مصطلحات مثل " قضية العرب المركزية".
لن يسامح التاريخ الذين يعظّمون الحرمين الشريفين ويتخلون عن ثالثهما، أما الذين يجعلون قضيتهم المحورية والمركزية هي الحرب على الإسلام السياسي، في الوقت الذي يقيمون فيه علاقات تعاون وصداقة مع اليهودية السياسية، ممثلة في حكومة نتنياهو وما سبقتها وما ستأتي بعدها، فهؤلاء شركاء في الجريمة.