مع اقتراب موعد الانتخابات في ليبيا
برزت في ليبيا، أخيراً، أحداثٌ أدّت الى زيادة تعقيد المشهد السياسي في البلاد، وفرضت نفسها على واقع يعاني منه الكثير من التحالفات والتجاذبات، وهي أحداث ارتبطت، بطريقة أو أخرى، باقتراب موعد الانتخاب المأمول، ولم تترك فرصة لحسن النية لتفسيرها، فالوقت الذي تمت فيه، والشخوص الذين يدفعون في اتجاهها على مختلف الأصعدة، ترسم أكثر من إشارة استفهام. فمنذ تسلم حكومة الوحدة الوطنية مسؤولياتها، شهدت معظم المدن الليبية، خصوصاً الغربية، هدوءاً غير مسبوق، إذ قُسّمت مناطق النفوذ بين المليشيات النافذة، والتزم كلّ طرفٍ بنصيبه ورضي به، بل أصبحت هذه الأطراف تتعاون في ما بينها بما يخدم مصالحها، وانعكس ذلك على حياة المواطن البسيط الذي أصبح غير مبالٍ بمن يحكم أو يسيطر على منطقته، طالما أنه يشعر بالأمان، حتى وإن كان نسبياً. تغير الأمر مع اقتراب موعد 24 ديسمبر/ كانون الأول، إذ خرجت هذه المليشيات من قمقمها، معلنة انتهاء فترة سباتها الصيفي، لتشهد العاصمة طرابلس والمناطق المجاورة لها كثيراً من مشاهد الاشتباكات في ما بين هذه المجموعات المسلحة، مناوشاتٍ لم يسلم منها حتى آمر منطقة العاصمة، اللواء عبد الباسط مروان، والذي حاولت مجموعة مسلحة اختطافه من منزله، في عملية بينتّها كاميرات المراقبة وتداولتها معظم صفحات التواصل، فقد أظهرت اقتحام مجموعة مسلحة ترتدي ملابس عسكرية منزله، لكنّه استطاع الإفلات منها، وقد اتهم مروان اللواء 444 قتال بتكليف عناصر مسلحة تابعة له باقتحام منزله للقبض عليه، مندّداً باقتحام حرمة المنزل وترويع الأسرة.
وفي مدينة الزاوية القريبة من العاصمة طرابلس دارت اشتباكاتٌ بالأسلحة الخفيفة والثقيلة، وسط شوارع المدينة وأزقتها، ظلت مشتعلة طوال الليل، وكالعادة لم يصب أحد من أطراف المليشيات، وكانت معظم الإصابات من نصيب المواطن الذي ساقته الأقدار ليكون في المكان الخطأ، في الوقت الخطأ وسط مناطق الاشتباكات.
بعد ممارسة أعمالهم في حكومة الوحدة الوطنية أكثر من ثمانية أشهر، اكتشف هؤلاء المسؤولون، فجأة، أنهم مجرّد أرقام فيها
أما الحكومة، والتي كانت سمناً على عسل، فانقسمت فجأة، إذ جرت دعوة كلّ المسؤولين من المنطقة الشرقية إلى الانسحاب من الحكومة والاجتماع في بنغازي، مبرّرين ذلك بتهميش المنطقة الشرقية، تلك الأسطوانة السمجة التي ملّ الليبيون سماعها، بمن فيهم كثيرون من مواطني المنطقة الشرقية أنفسهم، وقرّر هؤلاء المسؤولون جميعهم البقاء في المنطقة الشرقية حتى إشعار آخر؛ إشعار لا يعرفه إلّا الراسخون في علم ما يدور داخل أروقة الحكومة، وسرّ ما يُحاك بين أطرافها. انسحاب اقترن بمناكفات وتراشقات إعلامية، ظاهرها حصول المواطن على حقوقه، وباطنها تبادل أدوار واختلاف على مصالح شخصية ضيقة، ساهم اقتراب موعد الانتخابات في إذكاء نارها، فكلما اقترب الأخير تفنن الجميع في البحث عن نقاط خلاف، حتى وإن كانت مكرّرة، لتزداد المشاحنات ويتبادل مسؤولو الحكومة الاتهامات.
المضحك في الموضوع أنّه، وبعد ممارسة أعمالهم في حكومة الوحدة الوطنية أكثر من ثمانية أشهر، اكتشف هؤلاء المسؤولون، فجأة، أنهم مجرّد أرقام في الحكومة، وأنّهم ليسوا سوى صور صامتة وشخصيات كرتونية، وديكور كان لا بد منه لاكتمال صورة الحكومة الوطنية التي لم تستثن أحداً من كل المناطق الجغرافية (حسب وصفهم) اكتشاف جعلهم يستغلّون معظم وسائل الإعلام الرسمية والشعبية، للعزف على الوتر المعهود (التهميش)، فقد تباينت هذه الرسائل بين الهادئة والمتزنة، كالتي صدرت على لسان النائب الأول لرئيس الوزراء، حسين القطراني، والتي وجهها إلى رئيسه عبد الحميد الدبيبة، أو تلك المتطرّفة التي جاءت على لسان وكيل وزارة الداخلية، فرج قعيم، وأشار فيها إلى ماضي رئيس الحكومة، وكيف أنّه كان هارباً خارج البلاد، لأنّه كان محسوباً على "جهة معينة" واصفاً الحكومة بأنّها لم تكن حكومة جهوية فقط، بل حكومة عائلية وزّع الدبيبة المناصب المهمة فيها على عائلته، حسب تصريحاته التي خصّ بها وسائل الإعلام الليبية.
خلافات واختلافات ومظاهر مسلحة، ومناوشات بين مليشيات كانت متحالفة، عزاها كثيرون إلى اقتراب موعد انتخاباتٍ فصّل شروطها رئيس البرلمان
وجدير بالذكر أنّ هذه التصريحات سبقتها تصريحات لرئيس الحكومة، انتقد فيها أعضاء حكومته من المنطقة الشرقية، وقال إنّ خِلافهم مع الحكومة لم يكن من أجل مصلحة تلك المنطقة، أو التهميش الذي تعاني منه، مثل ما يدّعون، بل من أجل الحصول على ملايين من الميزانية العامة، وبشكل شخصي للتصرّف بها حسب معرفتهم، الأمر الذي يعد مخالفاً كلّ القوانين والتشريعات الليبية النافذة التي تحدّد آلية الصرف وآلية التصرّف في المال العام، حسب تصريحاته التي نقلت مباشرة عبر معظم وسائل الإعلام، مضيفاً أنّ كلّ مسؤول يجب ألّا يتجاوز حدود صلاحياته، متسائلاً: "ما علاقة وكيل وزارة الداخلية بمنصب وزير الدفاع، وكيف للوكيل أن يسمح لنفسه بالتدخل في أمور ليست له بها أي علاقة من قريب أو بعيد؟ وطلب منه التركيز على عمله فقط، مختتماً تصريحاته بأنّه لم يراجع السيرة الذاتية لوكيل الداخلية، وأنّه لا يعرف عنها شيئاً، لكنّه اختاره بناء على رغبة قبيلته.
خلافات واختلافات ومظاهر مسلحة، ومناوشات بين مليشيات كانت متحالفة، عزاها كثيرون إلى اقتراب موعد انتخاباتٍ فصّل شروطها رئيس البرلمان، عقيلة صالح، ومن تبقوا معه في برلمانه، لتناسب مقاس حلفائه، وعارضها خالد المشري، ومجلس الدولة الذي يرأسه، لأنّها لا تناسب من يدعمون، وصمت عنها مجلس رئاسي رأى في اختلافهما رحمة، اختلاف سيضمن بقاءه في منصبه، ونأى بنفسه ولم يحاول التدخل لحلحلة هذه المشكلات والاختناقات، على الرغم من أنّها من صميم واجباته، لأنّ حلها، وببساطة، يعني فقدانه مزاياه ومنصبه، فاقتصرت مجهودات رئيسه (رئيس المجلس الرئاسي) على زيارة المدينة القديمة في طرابلس، حيث تعرّف على معالمها، وتسلّم درعاً من أعيانها سيضيفه إلى الدروع والهدايا والغلال الرياضية التي حصل عليها من زياراته العديدة الداخلية والخارجية، إذ سبق أن حصل على قميص نادي الصقور عند زيارته طبرق في الشرق الليبي، وقميص المنتخب القطري عند زيارته الدوحة أخيراً.
لم يفاجأ معظم الليبيين بالمناكفات، الحقيقية منها والمفتعلة، والتي يرى معظمهم أنّ هدفها الوحيد المشترك محاولة تعطيل الانتخابات أو تأجيلها
وفي السياق نفسه، ما زال رئيس الحكومة هو الآخر يقوم بزيارات ورحلات كثيرة تركّزت، على غير العادة، على مدن وقرى مختلفة داخل ليبيا، واعداً جلّ هذه المدن والقرى بإنشاء مطارات دولية فيها، مع العلم أنّ أكثرها يعاني من عدم توفر المياه الصالحة للشرب، ويفتقر إلى أبسط الخدمات الصحية، فضلاً عن عدم قدرة سكانها على الحصول على رواتبهم، التي وإن حصلوا عليها فهي عاجزةٌ عن تلبية متطلباتهم الأساسية، أما متطلباتهم الكمالية منها فقد أصبحت لكثيرين منهم حلماً بعيد المنال.
الخلاصة، لم يفاجأ معظم الليبيين بهذه المناكفات، الحقيقية منها والمفتعلة، والتي يرى معظمهم أنّ هدفها الوحيد المشترك محاولة تعطيل الانتخابات أو تأجيلها، على أقل تقدير، لا سيما بعد اعتراف حسين القطراني (النائب الأول) في مقابلته الإذاعية أخيراً أنّ "لا أحد يريد أن يترك الكرسي بمن فيهم أنا" ولأنّ الاعتراف كما يقولون سيد الأدلة، فليس هناك داع للبحث عن حقيقة هذه الظنون.
رغباتٌ تقودها مصالح، وتحرّكاتٌ تعكس هذه المصالح، وما بين رغبة متصدّري المشهد في عرقلة الانتخابات أو تمديدها، ورغبة السواد الأعظم من الليبيين في إجرائها في موعدها، يظل الترقب سيد الموقف، ولا أحد يملك الإجابة عن السؤال الذي يحتمل الإجابتين!