مع من نتعاطف؟

30 سبتمبر 2024
+ الخط -

هكذا نعيش بين عالمَين. عبر وسائل التواصل تأتينا صور الأجسام المُقطَّعة، صور أطفال منزوعي الرؤوس، وصراخ العالقين تحت أنقاض المباني المُدمَّرة، والآباء الذين يحملون ما تبقّى من جثث أطفالهم في أكياس. في الواقع، نعيش يومياتنا وكأن شيئاً لم يحصل. تدور الحياة حولنا وكأنّها طبيعية جدّاً. يبدو العالم حولنا وكأنّه لا يعلم حتّى ما يجري في الضفّة الأخرى، حيث القتل معاش يومي. يبدو كأنّهم أيضاً غير منتبهين. يوم عادي آخر من السلم في الواقع يتجاور مع يوم آخر من القتل يأتينا عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ومن تواصلنا الهاتفي مع الأهل والأحبّة في المنطقة. نحن إذن في حالة انفصام متواصلة. نسقط عادة غضباً على ما نراه انعدامَ إنسانيةٍ ولا مبالاةً غربيّين إلى حدّ عدم رؤية هذه المعاناة. من الطبيعي أن يواصل العالم حياته في حين أن حروبنا تحصد الآلاف في عنف غير مسبوق، من الطبيعي أيضاً أن يحاول الناس في بلادنا الاستمرار في حياة شبه طبيعية رغم العنف كلّه المحيط بهم. ليس من المنطقي أن نتوقّع توقّف عجلة الحياة بسبب الحروب، وخصوصاً أنّها تدور في عالم آخر، هو في الغالب غير مفهوم بالنسبة إلى المواطن الغربي العادي. ثمّ إنّ هناك مئات الآلاف من المواطنين من كلّ الأشكال والألوان والجنسيات يشاركوننا غضبنا ضدّ وحشية الجرائم الإسرائيلية، في التظاهرات الأسبوعية، في حين أن بعض العرب من أهلنا يتبضّعون في المولات التجارية وكأنّ شيئاً لم يكن.
المشهد إذاً مُعقَّد ولا يحتمل الأحكام التعميمية. لكن، ما سرّ الصمت حولنا هنا في بلاد الغرب الذي يشبه اللامبالاة أو عدم الرغبة في معرفة ما يجري أو حتّى التوقّف عنده؟ لم لا نسمع صراخ الغضب الذي سمعناه في حالة أوكرانيا في التغطية الإعلامية والسياسة؟ لم لا نسمع أخباراً عن العدد الهائل من الصحافيين المحلّيين يقتلون في المنطقة من دون مشاعر غضب بين أهل المهنة؟ هل التفسير الوحيد عملية 7 أكتوبر (2023)، وأنّ حركة حماس منظومة إسلامية، ما يثير الرعب عند الغربيين؟ أم أنّها وسائل الإعلام بتركيزها في المعلومات العسكرية للحرب، وتعقيم معاناة المدنيين عبر حجب الصور المريعة لقتلهم السادي؟ أم هي السياسة في ردّها البارد، أو شبه الغائب، على المجازر الإسرائيلية في تبنّيها شعارات خشبية لطيفة؟ ... التغطية الإعلامية للنزاع في المنطقة غير قليلة، وتستقطب مساحاتٍ واسعةً من نشرات الاخبار، أقلّه في التلفزة البريطانية، إلّا أنّها تقتصر في الغالب على المراسلين في المنطقة، وعلى تحليلاتٍ خشبيةٍ مُستهلَكةٍ من بعض مُدَّعي المعرفة بالمنطقة من المُحلّلين الاستراتيجيين. تقول صديقة إنّها غالباً ما تشاهد صور نساء يولولن بعد غارة أو مجزرة، وتلك صور باتت محطّات التلفزة تبثّها بعد تدمير مدرسة أو قصف خيم اللاجئين. تقول الصديقة إنّ صور النساء في عويلهنّ توحي أنّه يأتي من عالم آخر، حيث التعبير يخرج من البرود المعتاد إلى تعبيرات غضب تراها غريبة. هل الأمر إذاً عدم القدرة على التماهي مع تجارب إنسانية مختلفة لا يمكن أن تشبه معاشهم بأيّ شكل من الأشكال؟ أم أنّ هذه المنطقة من العالم باتت تعتبر في مفهوم هؤلاء مصدراً للمتاعب وللعنف بأصنافه كلّها، ما يجعلها بالضرورة متماهيةً مع مفهوم الفوضى والعنف والتخلّف؟

التعاطف يتجاوز الاستجابة للرسائل التي يبثّها الإعلام بشأن مع مَنْ نتعاطف

يفترض التعاطفُ الإنساني مع أزمات عنيفة تدور في مناطقَ قاصيةٍ من العالم أن يفرد الإعلام، خصوصاً المرئي والمسموع، تمثيلاً شاملاً لهذه النزاعات في مختلف وجوهها، بما يتجاوز التحليل الاستراتيجي، والمعلومات العسكرية، ومواقف الأطراف المعنية. من الصعب إقرار علاقةٍ مباشرةٍ وثابتةٍ بين كيفية تغطية الإعلام لنزاع ما والتعاطف الواسع مع ضحايا هذه النزاعات، من جانب جماهير غير معنية بها لبعدها الجغرافي. إلّا أنّ الإعلام عبر اختياره طريقةَ تمثيل هذه الصراعات وتفسيرها للجماهير، بما يوحي أنّ طرفاً ما ضحية والآخرَ مذنبٌ، يحضّر الجمهور لطريقة ما في الإحساس أو التماهي مع مشهد العنف والمعاناة التي ترافقه. هل تُفسِّر موجةُ التعب من التعاطف (Compassion Fatigue) الرغبةَ في عدم التعرّض لمشاهد نزاع فائق العنف أو تحوّل التعرّض لمشاهد العنف هذه مُجرَّد مسألة تلصّصٍ يحمل من السادية أو الفضول غير الصحّي أكثر مما يحمل من التعاطف؟
غياب التعاطف لدى شريحة واسعة من الغربيين، رغم العنف غير المسبوق للنزاع، هو أيضاً غير مسبوق إلى حدّ ما، مع الرغبة في تفادي التعميم. لكن ماذا عن تعاطفنا نحن مع أحداث قد نرى أنّها لا تستحقّ التضامن مع ضحاياها؟ ماذا عن غياب تعاطفنا بشكل عام مع ضحايا هجمات 7 أكتوبر (2023)؟ ماذا عن ضحايا هجمات 11 سبتمبر (2001) في الولايات المتّحدة، وحملات التشفّي التي تلتها بين أوساط واسعة؟ ماذا عن تعبيرات التشفّي المختلفة العابرة لوسائط الإعلام الحديث بضحايا تفجيرات أجهزة "البيجر" و"الراديو" لكوادر حزب الله، رغم فداحة الإصابات وساديّتها؟ ماذا أيضاً عن تعبيرات الشماتة، التي سبق أن عبّرت عنها شرائح واسعة في أوساط حزب الله عن اغتيال شخصيات من مجموعات أخرى من دون اعتبار التعاطف الإنساني، ولا حتّى الصمت؟ ماذا عن غياب التعاطف العام مع ضحايا العنف في السودان مثلاً، ومحدودية التغطية الإعلامية لهم؟
التعاطف مسألة مُعقَّدة وتتجاوز مُجرَّد الاستجابة للرسائل التي تبثّها التغطية الإعلامية بشأن مع مَنْ نتعاطف، تفترض أن نأخذ في الاعتبار موقعنا الاجتماعي (Social Location) عندما نتعرّض لمشاهد العنف. بمعنى آخر، الاسقاطات التي نجلبها من دواخلنا على مشهد العنف، ومعناه بالنسبة إلى تاريخنا الشخصي وإلى خياراتنا الأيديولوجية. مع من نتعاطف اليوم؟

A6CF6800-10AF-438C-B5B5-D519819C2804
فاطمة العيساوي

أستاذة لبنانية في جامعة إيسيكس البريطانية. ترأست بحثا في تأثير عملية الانتقال السياسي على الإعلام المحلي في دول الثورات العربية. صحافية مستقلة ومدربة وخبيرة في التشريعات الاعلامية في العالم العربي.