مفارقة "الحشاشين".. مدَد يا "ماركو بولو" مدَد
أثار مسلسل الحشّاشين جدلا لا بأس به في شهر رمضان الماضي. هل نقول كعادة أعمال عبد الرحيم كمال؟ في تقديري لا. فقد تعوّدنا مع الكاتب الموهوب، بصدق، على أنواع أخرى من الإثارة.. إثارة المتعة، إثارة الشغف، إثارة الأشواق الروحية، عبر "نفَس" صوفي رائق، وحقيقي، فهو جزء من تجربة الكاتب لا من ادّعاءاته، كآخرين. لكن الجدل هذه المرّة يأتي من "نفَس" مختلف، أقرب إلى "الحشّاشين" في زماننا، منه إلى فرقة الحشّاشين في التاريخ البعيد.
لماذا ذهب عبد الرحيم كمال إلى هناك؟ تبدأ الإجابة من سؤال أهم: لماذا اضطرّت دراما الشؤون المعنوية أن تترك مشروع "الاختيار 4"، بعد الإعلان عنه، وتذهب إلى سيناريست محترف ليعيد إنتاج رواية الدولة في مسلسل تاريخي؟ فشل "الاختيار"، بأجزائه الثلاثة، في تحقيق "المستهدَف"، وتحوّل، في جزئه الثالث، مع ظهور ياسر جلال، بوسامته، وصوته الرقيق، وقوامه الممشوق و"الطويل"، إلى مادة لفنون "الكوميكس". من هنا لزم تغيير "الصنف"، من تخييل التاريخ القريب، الذي عايشه المصريون، مؤيدون ومعارضون، وبدا من الصعب تزويره أو إعادة تأويله، وفق سردية السلطة ومصالحها، إلى تطويع التاريخ البعيد، وغير المطروق، تاريخ الحشّاشين، فهو مجال أرحب لهذه التأويلات "الباطنية".
كان المستهدف، ولا يزال، تبرير المذابح المؤسّسة لدولة 3 يوليو/ تموز، هذا هو الهاجس الذي لا يفارق صاحب "جمهورية الكباري"، فيلحّ عليه في خطاباته، ويأتي على ذكره مرّات ومرّات، ويحوم حوله، تلميحا وتصريحا، ولا يكفّ عن ذلك حتى بعد مرور أكثر من عشر سنوات على مذبحة ميدان رابعة العدوية وأخواتها. فشل "الاختيار 3" في تمرير سردية النظام عن فض الاعتصام في الميدان، فجاء مسلسل الحشّاشين، لا لينفي جرائم قتل المدنيين، الأكثر بشاعة في تاريخنا الحديث، بل ليبرّرها، فالجرائم حدثت وتحدُث، ولا سبيل إلى إنكارها، كما أن التذكير بها تجاوز خطابات الرئيس وخصومه، من النخب المعارضة، إلى "الناس"، إلى العاديين، إلى الملايين الذين ساهم "الاختيار 3" في لفت أنظارهم إلى تفاصيل، لم تكن من جملة اهتماماتهم، مع الأسف. كما ساهمت الإخفاقات المتكرّرة في ملفات الاقتصاد والخدمات في زيادة كهرباء المخ لدى قطاع كبير من المواطنين، فاشتدّت حاجتهم إلى استدعاء فضائح الدولة التاريخية لتقريعها بها على فضائحها اليومية. من هنا جاء الحشّاشون، أتباع حسن الصباح، أو الإخوان المسلمون أتباع حسن البنا، كما فهم أغلب المشاهدين بعد مشاهدة الحلقات الأولى، وكما تأكّدوا من ذلك، بعد قراءة التوجيهات الوطنية في مجلة روزاليوسف التي نبّهت المواطنين الشرفاء إلى ما ينبغي لهم فهمه من المسلسل. (الله، الوطن، بالأمر).
احتاج عبد الرحيم كمال إلى شخصية دينية مهووسة، رجلٍ ذي تاريخ إجرامي في قتل أقرب الناس إليه، وتكفير أقرب الناس إليه، وخيانة أقرب الناس إليه، وتبرير ذلك كله بالدين، حتى يصل بالمشاهد إلى قناعة تفيد بأن قتل الصباح وأتباعه (خصوم الدولة) مهما بدا وحشيا فهو أقلّ ما يستحقّونه، كما أنه أقلّ بكثير مما يفعلونه. ورغم فساد القياس، حد الافتراء، إلا أن المادة التاريخية وحدَها لم تسعف الكاتب "النزيه"، إذ ساورته خيالات جهاد النكاح وتبرير خوض إعلام الدولة في أعراض المتظاهرين والمتظاهرات، فذهب إلى خيالات الرحّالة الغربيين عن حسن الصباح وأتباعه ليأتي بحدوتة "التمتّع"، ومخايلة التابع تحت تأثير الحشيش بفتيات يعملن مع الصباح، وإيهامه بأنهن حوريات الجنة اللائي ينتظرنه بعد استشهاده في سبيل دعوته. وقد كان ماركو بولو في روايته يقول: إن الفدائيين صدقوا شيخ الجبل كما كان المجاهدون يصدقون النبي عليه السلام. وهي الخيالات التي "نشأت بين الصليبيين ولم تنشأ بين المشارقة"، كما أشار عبّاس العقاد في كتابه "فاطمة والفاطميون"، إذ "كان الصليبيون في حاجة إلى تأويل شجاعة المسلمين وهم في عرفهم قوم هالكون لا يؤمنون بالدين الصحيح"، فلجأوا إلى تأويل شجاعتهم باختراع هذه الرواية الساقطة، ومن ثم لجأ إليها عبد الرحيم كمال، واعتمدها مدداً "وطنياً".