مفاوضاتٌ تلد أخرى
ما من حربٍ إلا وجاء يومٌ انتهت فيه، بمفاوضاتٍ بين المتنازعين أو تفاهماتٍ أو تدخّلاتٍ ووساطات. ولمّا قيل إن المداولات في أيِّ مفاوضاتٍ مثل هذه تعكس، بالضرورة أو غالباً، موازين القوّة في ميدان الحرب نفسه، وموازين سياسية أيضاً، فإنه لا شيء يجعل الحرب الجارية في غزّة خارج هذا البديهي، سوى أنها ليست حرباً بالضبط، بل جرائم إبادة يوميّة مروّعة يرتكبها جيشٌ معتدٍ على كل شروط الحياة في قطاع غزّة، على الإنسان هناك، وعلى مدارسه ومستشفياته وخيامه ومياهه وطعامه، ما جعل المواجهة العسكرية بين هذا الجيش والمقاومين في كتائب القسّام، وغيرها من الفصائل المسلحة، تفصيلاً ليس مركزياً في المشهد. ولئن كان من المحسوم أن قدرات المقاومة تأثّرت كثيراً بالاستهدافات الإسرائيلية، إلا أن من المحسوم، بالتوازي، أن كل الحشد العسكري المهول، وبعتاده الفادح، لم يستطع الإجهاز على المقاومة التي تمكّنت، بكفاءةٍ فوق استثنائية، من الاحتفاظ بأكثر من مائة أسيرٍ إسرائيلي في ظروفٍ بالغة التعقيد والعُسر. ولمّا كان المشهد منذ عشرة شهور عدواناً متمادياً في جرائمِه ضد الغزّيين في كل أماكن مساكنهم ونزوحهم ولجوئهم، كان العامل الإنساني وحدَه وما يزال يلزم أن يتقدّم على أي اعتباراتٍ وحسابات. وللحقّ، لم تقصّر هيئات الأمم المتحدة ووكالاتُها وأجهزتها في تعيين فداحة ما يتعرّض له المدنيّون في غزّة من محوٍ وفتكٍ وتجويع وتشريد. وقد تراكمت تقارير هيئاتٍ حقوقيةٍ وإغاثيةٍ عديدةٍ ذهبت إلى هذا الأمر الذي ساهم النشرُ عنه وتصويرُه في إشعال موجات السّخط الكبرى في كل العالم ضد إسرائيل. وتلكما، محكمتا العدل والجنايات الدوليّتان، أصدرتا ما هو كثيرُ الأهمية في هذا.
ينضاف إلى كل المعلوم الذائع أعلاه أن إسرائيل لم تحفل بشيءٍ منه، ولم ترعوِ، وفصَلت بين غضبها البيّن من كل التضامن الإنساني العريض في العالم مع الغزيين، والذي دعا إلى وقف المذبحة، واستمرارها في اقتراف جرائمها التي تُريد، وبالكيفيّة التي يعيّنها جيشُها، من دون أي اكتراثٍ بشيء، ولا احترام لأي نداءٍ أو قرار أممي. وبدا العجز العالمي عن ردع العصابة الحاكمة في تل أبيب وكفّ يدها في غزّة فضيحةً تاريخيةً كبرى، يُساعد في تفسيرها أن الغرب المتقدّم حافظ على إسناده دولة الاحتلال، ولم يُبادر إلى عقابها بشيء، واكتفى بعضٌ منه بانتقاداتٍ لفظية.
ما كان يلزم في جولات التفاوض العسيرة التي تعدّدت في غضون حرب الإبادة ، أن يُصار، أولاً وقبل شيء، إلى أن تكون الحربُ حرباً، بين طرفي التفاوض (غير المباشر)، أن تتصف بتسمتيها هذه فعلاً، لا أن تتبخّر جثث 1760 شهيداً بفعل استخدام إسرائيل أسلحة محرّمة، هم بين أزيد من 40 امرأة وطفلاً وشيخاً وشاباً قضوا بنيران المعتدين الغزاة. ولكنّ هذا البعد المحض أخلاقي مثاليٌّ، يتعالى من يقول به على حقائق الواقع، وهذه في صدارتها أن إسرائيل المحصّنة، والمحميّة والمساندة، والمطلقة اليدين في غير شأن، هي التي تقتل، ولمن أراد أن يلومها فليفعل، فالأولوية لأن تعيد حركة حماس "المختَطفين" الإسرائيليين (وبضعة أميركيين؟). والذي تأكّد أن تقتيل إسرائيل في الغزّيين العزّل في العراء والمستشفيات والمدارس واحدٌ من أسلحتها التي تبتزّ بها "حماس" بغرض إخضاعها في نوبات التفاوض التي تسبق كلَّ واحدةٍ منها، في الدوحة والقاهرة وباريس وروما، زوبعةٌ من أخبارٍ عن صلاحياتٍ أعطاها نتنياهو لوفد التفاوض أو لم يعطِها، وعن اجتماعات تتلوها اجتماعاتٌ لمجلس الحرب والحكومة، وكأن علينا أن ننقطع إلى مراقبة أمزجة بن غفير وسموتريش ونتنياهو وحواشيهم.
جديد المفاوضات التي تتوالى، وتلد كل جولةٍ منها جولةً أخرى، أن المتدخّل الأميركي فيها يشيع أجواء تفاؤل، على ما فعل بعد مداولات الدوحة يوم الجمعة الماضية. لا يُرى هذا مقنعاً، وإنْ يدفع البيت الأبيض بفكرة وقف إطلاق النار، من دون العمل الكافي باتجاه تنفيذ هذا الأمر الذي يشتهيه الغزّيون، من أجل وقف عذاباتهم، وتعمل "حماس" على تأكيدِه شرطاً واجب الضرورة. لسنا مُلزمين بتفاؤلٍ كهذا، بعد جولة القاهرة وما قد يليها، وقد جفّت قدرتنا على أي تفاؤل، بعد جبالٍ من اليأس أقامت فينا، بفعل الانعدام الأخلاقي في حرب الإبادة التي نرى، وفي المفاوضات أيضاً... ولكن، ما من حربٍ إلا وجاء يومٌ وانتهت.