02 نوفمبر 2024
مناحة اللجوء السوري في لبنان
منذ بداية الحوادث السورية في مارس/آذار 2011، انتعشت في لبنان حمّى الكراهية ضد السوريين اللاجئين إلى هذا البلد، وتصاعدت حملات التنكيل والترويع بحق العمال السوريين والمقيمين العاديين. ومع النزوح السوري الجديد، أي منذ سنة 2012 فصاعداً، راحت النيران تُضرَم، بطريقة متعمّدة، في مخيمات النزوح، علاوًة على رفع يافطاتٍ مكتوب عليها "ممنوع تجوّل السوريين بعد الساعة السابعة مساءً". وكان أكثر من مائة مخيم قد التهمتها النيران، وأصبحت رماداً جرّاء إحراقها المتعمد. ولعل بدايات هذه الحملة تعود إلى العام 2005 حين اغتيل الرئيس رفيق الحريري، واتُهم "النظام الأمني اللبناني - السوري" بهذه الجريمة المروِّعة. والحقيقة أن عبارة "النظام الأمني اللبناني - السوري" ليست دقيقة، وليست قانونيةً أو جنائية، ولا تحدد أي قاتل بعينه، وإنما هي عبارة عامة، تشير مداورة ولا تتهم مباشرة. ومع ذلك، قُتل نحو عشرين عاملاً سورياً في مناطق متفرقة من لبنان في سنة 2005، حتى إن رئيس الحكومة الأسبق، فؤاد السنيورة، لم يتورع، في 5/2/2006، عن اتهام السوريين بأنهم يقفون وراء اقتحام منطقة الأشرفية في التظاهرة الاحتجاجية على الرسوم المسيئة إلى النبي محمد التي نشرتها صحيفة دنماركية، وجرى توقيف نحو 250 سورياً و50 فلسطينياً و20 لبنانياً بطريقة مهينة، فكانت قوى الأمن تُنزل الركاب من الحافلات، وتغربل السوريين من بينهم وتحتجزهم، وتداهم ورش العمل وتوقف العمال السوريين، لا غيرهم، باعتباطية وسلوك فاشي. وفي نهاية المطاف، رست عملية الطرد تلك على توقيف 137 شخصاً، بينهم 111 لبنانياً و16 سورياً و10 فلسطينيين، وتبيّن أن مشايخ تابعين لدار الفتوى الموالية للرئيس السنيورة هم الذين حرّضوا المصلّين على التظاهر، ونظموا عمليات الانتقال من بيروت وطرابلس إلى أماكن التجمع المحدّدة، واقتحموا منطقة الأشرفية المسيحية، وكسّروا محلاتٍ فيها (انظر: فابريس بالانش، "العمال السوريون في لبنان: مشاكل وآلام"، صحيفة الأخبار، 21/4/2007؛ بالاشتراك مع "لوموند دبلوماتيك"). وقد بلع السنيورة، وجميع من عزف على ألحانه آنذاك، ألسنتهم، ولم يعتذروا. وذكر تقرير لمنظمة العفو الدولية أن السوريين يتعرّضون للقتل وحرق مخيماتهم ومنازلهم، وللرمي من أعالي المباني التي يعملون فيها، وللطعن في الشوارع (الأخبار، 21/4/2007)، فضلاً عن إهانتهم الدائمة في الأحياء ووسائط النقل.
أين الملايين؟
تتجلى حملة الكراهية التي لا تتوقف، خصوصاً في وسائل الإعلام، في تضخيم أعداد السوريين في لبنان، والتحذير من مخاطر تلك الأعداد "الهائلة"، وإلقاء اللوم على السوريين في تراجع
الخدمات، كالكهرباء والنظافة، وتحميلهم المسؤولية عن كل ما يجري في لبنان من نهبٍ وسلب وتضخّم وبطالة وتهتك السياسة وانحطاط السياسيين؛ وهذا أمر يثير الغثيان والسخرية معاً لضحالته ومخالفته الوقائع الحاسمة. ويجب التعامل بحذر شديد وريبةٍ قصوى، بل بتشكيكٍ علمي عالٍ جداً في الأرقام التي تذيعها "المصادر" اللبنانية عن أعداد السوريين في لبنان. وعلى سبيل المثال، فإن الرقم الذي شاع جداً في لبنان هو أن 150 ألف ضحية سقطوا في لبنان إبّان الحرب الأهلية (1990-1975)، علاوة على نحو 300 ألف جريح، غير أن "جمعية نهضة لبنان"، وفي خلاصة نهائية لعمل بحثي واسع استند إلى معلومات رقمية ووصفية واستقصاءات وخلاصات مستقاة من محفوظات صحيفتي النهار والسفير، وعلى مدى تسعة أشهر متواصلة، توصل فريق البحث إلى أن عدد ضحايا الحرب الأهلية اللبنانية بلغ، بين 1975 و2006، أي حتى بعد 16 سنة من التاريخ الرسمي لوقف الحرب، 48 ألف قتيل، ونحو 100 ألف جريح ("النهار"، 26/6/2014). وهذا يعني أن الأرقام المتداولة جرى نفخها ثلاث مرات. وكان الشاعر سعيد عقل يرفع عدد الفلسطينيين المقيمين في لبنان إلى 940 ألف فلسطيني، ويهددهم بالقول: "إذا كان في مؤخرة رأس الفلسطينيين أن يبقوا عندنا فأهلاً بهم، ولكن، لا فوق الثرى بل تحت الأرض، فأرض لبنان تتسع لـ940 ألف قبر" (صحيفة الأحرار، بيروت، 5/10/1981). وكان عدد الفلسطينيين آنذاك أقل من 400 ألف. وفي خطبة لرئيس الحكومة سعد الحريري، في إبريل/نيسان 2017، ذكر أن عدد الفلسطينيين في لبنان هو 500 ألف، وأن عدد السوريين النازحين هو مليون ونصف المليون نسمة. وحقيقة الحال أن عدد الفلسطينيين الباقين في لبنان هو 240 ألفاً في الحد الأعلى. أما أعداد النازحين السوريين إلى لبنان فقد وصل بالفعل إلى أكثر من مليون ومائة ألف نازح، وهو الرقم المسجل رسمياً لدى المفوضية السامية لشؤون اللاجئين UNHCR. لكن مَن بقي منهم أدنى بكثير، إذ غادر ما لا يقل عن 400 ألف. وكثيرون يعرفون أن 70% من ركاب طائرات شركة طيران الشرق الأوسط MEA هم سوريون، علاوة على ركاب الشركات الأخرى. والمؤكد أن مجموع السوريين في لبنان، بين لاجئين وآخرين كانوا يقيمون إقامة طبيعية منذ ما قبل الحوادث السورية في سنة 2012، لا يتجاوز المليون وثلاثمائة ألف سوري، على أبعد تقدير.
النزوح السوري وآثاره الإيجابية
مثلما أطلق اللجوء الفلسطيني إلى لبنان في سنة 1948 فورة اقتصادية كبيرة آنذاك، ومثلما
دفعت الأموال السورية التي انتقلت إلى لبنان في سنتي 1957 و1958 الازدهار العمراني والمالي قفزاتٍ إلى الأمام، فإن مردود النزوح السوري إلى لبنان منذ 2012 كان إيجابياً في جوانب كثيرة. فقد أورد تقرير معهد التمويل الدولي ( Institute of International Finance) أن صافي تدفقات رؤوس الأموال على لبنان بلغ 4.9 مليارات دولار في سنة 2013، و5.2 مليارات دولار في سنة 2014 (النهار، 9/6/2014)، وكانت معظم مصادر هذه الرساميل سورية. وكان متوسط النمو في لبنان 1.5% في سنة 2012، فارتفع إلى 3% في سنة 2013 (تقرير معهد التمويل الدولي الصادر في مايو/أيار 2013 والمنشور في مجلة "السلم الأهلي"، العدد 3، بيروت، 26/6/2013)، ثم إلى 4% في سنة 2014. أما التضخّم فانخفض من 6.7% في سنة 2013 إلى 2.4% في سنة 2014 (تقرير صندوق النقد الدولي لسنة 2014). وفي تقريرٍ مشترك لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي والمفوضية السامية لشؤون اللاجئين، ورد أن رزم المساعدات المقدمة إلى النازحين السوريين بلغت قيمتها في سنة 2014 نحو 800 مليون دولار. وهذا المبلغ ضخ 44% من القيمة الكلية بشكل نقدي مباشر، و40% مشتريات عينية من السوق اللبنانية، و14% رواتب للموظفين والمنظمات الشريكة، والباقي نثريات (النهار، 18/6/2015). وأدت هذه المبالغ إلى نمو الناتج المحلي اللبناني 1.3%. وبحساب المضاعف، فإن ضخ 800 مليون دولار من المساعدات، في سنة واحدة، يعادل ضخ 1.3 مليار دولار في الاقتصاد. وعلى الغرار نفسه، أشار تقرير فرنسبنك عن أداء الاقتصاد اللبناني في الفصل الأول من عام 2014 إلى تحسّن مؤشراتٍ اقتصادية كثيرة، مثل زيادة مساحات البناء المرخصة 18% (دفع السوريون 420 مليون دولار إيجارات في سنة 2013؛ انظر تقرير المفوضية السامية لشؤون اللاجئين في 27/5/2014)، وازدياد عمليات البيع العقارية 16.3%، وزيادة عدد المستوعبات في مرفأ بيروت 8.1%، وارتفاع عدد السيارات المبيعة 4.2%، فضلاً عن ازدياد موجودات مصرف لبنان من العملة الصعبة 2.8%، وموجودات القطاع المصرفي 7.1%، وودائع القطاع المصرفي 6.6%، واتساع عدد عمليات التبادل في بورصة بيروت 84%.
يعرف كل مَن له إلمام بالاقتصاد أن قطاعات اقتصادية كثيرة في لبنان استفادت، بدرجات متفاوتة، من النزوح السوري، وكان أبرز تلك القطاعات: العقارات والمنازل المؤجرة (44 ألف منزل جرى ترميمها على عجل تلبية للطلب السوري في عام 2012 وأوائل العام 2013)، الاستهلاك اليومي، الطيران، الاستشفاء، التعليم، النقل، البناء، الاتصالات، الزراعة. وفي هذا الميدان، يشرح رئيس جمعية المزارعين اللبنانيين، أنطوان حويك، الحال بالقول، إن تأثير اللجوء السوري في القطاع الزراعي كان إيجابياً، فزاد الاستهلاك، وانخفضت أجور العاملين السوريين جرّاء زيادة المعروض من الأيدي العاملة. ومن جانب آخر، فإن المنتوجات اللبنانية التي ركد تصديرها منذ حرب يوليو/ تموز 2006، وتضرّرت، إلى حد كبير جداً، جرّاء انقطاع طرق التصدير (الترانزيت) إلى دول الخليج العربي، عوّضت جزءاً كبيراً من ركودها بالتصدير إلى سورية نفسها التي وجدت في البضائع اللبنانية بديلاً عن البضائع التي كانت تستوردها من هنا وهناك إلى موانئها مباشرة، أو رأت فيها بضائع يمكن إحلالها محل البضائع السورية التي تضرّر إنتاجها جراء الحرب المتنقلة في المناطق السورية، فضلاً عن مئات الجمعيات الأهلية التي تُعنى بالطفولة والنازحين والمرأة والتعليم والرعاية الصحية، والتي نبتت فجأة كالفقع، وراحت عجلاتها تدور وتتلقى الأموال من الجهات المانحة لإنفاقها على النازحين. والمؤكد أن أكثر من 70% من أموال المساعدات لا تصل إلى أصحابها على الإطلاق.
ازدهار يُرى بالعين المجردة
ازدهر كثيراً، في سنوات 2013 و2014 و2015، قطاع الشقق المفروشة والمنازل
المؤجرة في جميع المناطق اللبنانية، وهو أمر بدهي، في سياق تلبية الطلب السوري المتزايد على السكن. وتوسع كذلك نطاق الاتصالات الهاتفية كثيراً. وتعج المقاهي والملاهي والمطاعم في بيروت بالسوريين، خصوصاً في شوارع الحمراء والجميزة ومار مخايل، علاوة على مقاهي الشاطئ. وفي موازاة ذلك، افتتح السوريون عدداً لا يحصى من المصالح التجارية، في مقدمتها المطاعم والمقاهي ومحلات البيع والأفران ومعامل الحلويات. ويتألق المغنون السوريون في لبنان أيما تألق، أكان في الحفلات العامة أم في البرامج التلفزيونية، أمثال جورج وسوف ورويدا عطية وناصيف زيتون وإلياس كرم وعلي الديك وحسين الديك ومحمد خيري وغيرهم. وتمتلئ صالات الفن التشكيلي في لبنان بعشرات المعارض التي تمثل تجارب فنية مغايرة تختلف عما اعتادت عليه الذائقة التشكيلية اللبنانية. وإلى ذلك، تزدحم المسلسلات الدرامية السورية بالممثلات والممثلين اللبنانيين، بعدما انتقل منتجون ومخرجون وكُتاب سيناريو سوريون إلى لبنان. واستوعبت هذه المسلسلات فنانين لبنانيين ومصورين كثيرين، ووَقَتْهم البطالة. ويجري استئجار أدوات التصوير والخدمات المرافقة، كالسيارات والحافلات والفنادق وأماكن التصوير، فضلاً عن الأكل والشرب والنفقات الجارية، وهو ما استفاد منه الاقتصاد اللبناني أيّما استفادة. وفوق ذلك، استفاد الفنانون اللبنانيون من الخبرات السورية الغنية في هذا الحقل، بعدما كانت المسلسلات اللبنانية بليدةً وسقيمة وذات مضامين متهافتة.
سلبيات وأعباء
إن بعض المؤشرات السلبية العالقة بالاقتصاد اللبناني، والتي لا يتورع مسؤولون لبنانيون عن
الكلام عليها، لا علاقة لها باللجوء السوري كالسياحة، على سبيل المثال، المتوقفة منذ حرب تموز/يوليو 2006؛ حين ذاك. وجرّاء الخلافات الإقليمية، امتنع السياح العرب عن المجيء إلى لبنان. وقد أعاق السوريون وإنفاقهم في لبنان انهيار مؤسسات السياحة، وعوّض حضورهم جزءاً من دخل ذلك القطاع الحيوي. أما المشكلات اليومية التي تحفل بها الحياة السياسية اللبنانية، كالنفايات والعجز عن نقلها، وسرقة المال العام، والنهب المنظم لواردات الدولة، وتبييض الأموال، والمخدرات، ومئات الجمعيات الأهلية الوهمية التي تتقاضى مئات ملايين الدولارات من دون أن يكون لها وجود حقيقي، وعدم استقرار النظام السياسي، وتهتّك مؤسسات الدولة، والصراعات الطائفية المكشوفة، والإرهاب، والسلاح، والسطو على مرافق الدولة كالتخابر الدولي والإنترنت، والرشوة المفضوحة، فما علاقة اللاجئين السوريين بهذه الأمور كلها؟ ويحاول بعض "المتذاكين" من السياسيين اللبنانيين، غير الأذكياء إطلاقاً، أن يحرِّض على اللاجئين السوريين، بالقول إن البنى التحتية اللبنانية، كالكهرباء والماء والصرف الصحي والتعليم والمستشفيات، ما عادت قادرة على تلبية الحاجات المتزايدة جراء النزوح السوري. وهذا الكلام المتهافت مردود عليه؛ فحتى منتصف العام 2013، وعلى الرغم من تدفق أكثر من 600 ألف سوري على لبنان، لم يزد استهلاك الطاقة إلا قليلاً (من 70 إلى 80 ميغاواط فقط)، وهو يخالف تصريحات وزير الطاقة والمياه آنذاك، جبران باسيل. وما زال وزير الطاقة الجديد يزعم أن النازحين السوريين يستهلكون 370 ميغاواط من الكهرباء، أو ما يعادل 370 مليون دولار، ويتسببون في تقنين إمدادات الطاقة خمس ساعات يومياً. وهذا الزعم مضحك، ومضلل في الوقت نفسه، لأن أزمة الكهرباء في لبنان متفاقمة منذ توقف الحرب الأهلية اللبنانية، أي منذ سنة 1990 فصاعداً (أو منذ 21 سنة إذا كان الوزير لا يعرف عمليات الجمع والطرح البسيطة)، فيما ثمن استهلاك النازحين للكهرباء تدفعه الدول المانحة حتى آخر قرش وليرة. ومن المعروف أن سورية ظلت تمد لبنان بالكهرباء من شبكتها الوطنية العامة بأسعار متدنية جداً، وبفترات سماحٍ طويلة، حتى نشوب الأزمة السورية.
خرافة المنافسة
يتوزع السوريون في لبنان على ست فئات واضحة المعالم (مع بعض التداخل في الفئتين الثالثة والرابعة) هي:
1- الأثرياء: وهؤلاء انتقلوا إلى لبنان بأموالهم وأفراد عائلاتهم منذ بداية الأزمة السورية، ومعظمهم كان يمتلك منازل ومصالح وحسابات مصرفية في لبنان. ومَن لم يكن يمتلك أي مصالح، عمد فوراً إلى شراء منزل، وأدخل أبناءه إلى المدارس الراقية أو إلى جامعات الدرجة الأولى. ولاحقاً افتتحوا مكاتب لإدارة أعمالهم التجارية بين أوروبا وسورية والخليج العربي. وأدخل هؤلاء إلى لبنان في السنتين الأوليين من عمر الأزمة السورية ما لا يقل عن تسعة مليارات دولار، فاضت بها المصارف اللبنانية، ومنحتها قدرة استثمارية فائقة.
2- الفئة الوسطى: وهؤلاء هم الذين استأجروا المنازل لإيواء عائلاتهم، وأدخلوا أولادهم إلى المدارس الخاصة اللبنانية وإلى الجامعات. وهذه الفئة، بسبب اتساعها العددي، هي التي تحرّك عجلة الاقتصاد الآن في لبنان، وبالتحديد عجلة الاستهلاك والخدمات، كالمأكل والمشرب وإيجارات المنازل والمطاعم والمقاهي والمدارس والهواتف. ومَن كان في أدنى سلم هذه الفئة، اعتاش، في البداية، على مدخراته، ثم راح يعتاش على تحويلات الأبناء الذين سافروا إلى دول الخليج العربي للعمل، أو إلى أوروبا للهجرة والدراسة، ولا تنافس هذه الفئة أحداً من اللبنانيين، بل تنفق أموالها ومدخراتها في شتى الحاجات.
3- الحرفيون: وهؤلاء يخفضون بأجورهم المتواضعة تكلفة الإنتاج في بعض قطاعات الاقتصاد اللبناني، ولا سيما قطاع الانشاءات والبناء، فالنجارون والحدادون والبناؤون والبلاطون وعمال الباطون والتوريق والأدوات الصحية وغيرهم، يجعلون تكلفة شقة سكنية متوسطة أقل بنحو مائة ألف دولار في ما لو كانت أجورهم تعادل ما يطلبه الحرفي اللبناني الذي يعمل ساعات أقل ويطلب أجراً أعلى ومستوى عمله أدنى سوية؛ وهنا تظهر المنافسة مع اليد العاملة اللبنانية.
4- أصحاب المهن البسيطة: وهؤلاء عمد بعضهم إلى افتتاح ورش ومحال، مثل الأفران ومطاعم مناقيش الصعتر والأجبان والدكاكين المتواضعة التي تبيع الحلويات أو الملبوسات السورية الرخيصة. ويشغّل هؤلاء جزءاً من اليد العاملة اللبنانية، وينافسون، في الوقت نفسه، بعض أصحاب المحال اللبنانية المماثلة.
5- العمال: ولا سيما عمال الزراعة (وهم موسميون) وعمال البناء والنظافة والخدمات، وهؤلاء لا يستغني الاقتصاد اللبناني عنهم، ولا ينافسون العمالة اللبنانية.
6- النازحون: وهم سكان مخيمات النزوح الذين يتلقون المساعدات العينية والنقدية من الدول المانحة التي تدفع عنهم أيضاً تكلفة الكهرباء وإيجار الأراضي التي تقوم عليها المخيمات ونفقات التعليم، والاستشفاء. والقليل جداً من هؤلاء يحاول أن يزيد دخله بالعمل في مواسم قطاف البطاطا أو الزيتون أو البندورة أو حتى الحشيشة.
هل ينافس اللاجئون السوريون اللبنانيين في الوظائف؟ بالطبع لا، لأن السوري لا يمكنه أن
يكون موظفاً في دوائر الدولة اللبنانية، خلافاً لسورية التي تسمح للعرب، خصوصاً للفلسطينيين، بالعمل في الإدارة السورية حتى أعلى المراتب. ولا يستطيع السوري في لبنان أن يحتل مواقع وظيفية في القطاع الخاص، كمديري المصارف والمحاسبين القانونيين ورئاسة تحرير الصحف أو محطات الإذاعة والتلفزة ومكاتب مراسلي الصحف الدولية ومراكز الصيرفة وإدارة شركات الهندسة ومكاتب المحاماة والمشورة والمستشفيات... إلخ. ثم إن في لبنان مئات الآلاف من العمال الأجانب الآخرين، ولا أحد يتحدث عن منافستهم لليد العاملة اللبنانية. ففي لبنان نحو مائة ألف مصري و75 ألف سوداني وأكثر من مائة ألف سيريلانكي و50 ألف هندي وفيليبيني وإثيوبي، علاوة على أعداد ملموسة وغير محدّدة من العراقيين والإيرانيين والترك والبنغاليين، وهؤلاء يُعاملون، في حالاتٍ كثيرة، معاملة استعلائية. أما المصالح السورية الجديدة في لبنان فقد رفدت مالية الدولة اللبنانية بأموال طائلة على هيئة رسوم وضرائب، وأتاحت فرص عمل جديدة للبنانيين أيضاً. أما فوضى سوق العمل فسببها أن رجال الأعمال اللبنانيين هم الذين كانوا وما زالوا يرفضون تنظيمها، لأن من شأن تنظيم هذه السوق أن يتحمل رجال الأعمال رسوم إجازة العمل والإقامة والتأمين الصحي والتأمين على حوادث العمل وتعويض نهاية الخدمة والاشتراك في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. وكان أرباب العمل يسلبون سنوياً أربعة مليارات دولار من عرق العمال السوريين وتعبهم؛ هذا قبل الأزمة السورية، أما بعدها فالمبلغ بات أكثر وفراً بكثير.
عبء الأمن
لا ريب أن زيادة أعداد السوريين في لبنان يضع على كاهل الأجهزة الأمنية أعباء إضافية كبيرة، بل استنفاراً مرهقاً، خصوصاً أن جماعات سورية كثيرة منغمسة في عمليات الإرهاب، وهي تجند شباناً سوريين ولبنانيين للقيام بالإرهاب والقتل. لكن لنلاحظ أن نسبة الجرائم التي يرتكبها سوريون، إذا قيست بمجموع الجرائم المرتكبة فوق الأراضي اللبنانية، هي أقل بكثير من نسبة عدد السوريين إلى مجموع السكان في لبنان، فاللاجئون السوريون لا يديرون عمليات سرقة السيارات وزراعة حشيشة الكيف وتصنيع حبوب الهلوسة كالكبتاغون والهيروين، ولا يخطفون الأشخاص لقاء فدية، ولا يتقنون الاحتيالات المالية وتزوير العملات والشيكات عادمة الرصيد، ولا سرقة الأراضي الأميرية وأراضي المغتربين وبيعها بسندات مزورة... إلخ. فإذا وُجد سوري أحياناً ضمن مجموعة لسرقة السيارات مثلاً، فهو مجرد شغيل لدى معلم لبناني متوارٍ، والأمر نفسه يسري على إدارة أعمال الدعارة والقمار. والمعروف أن "مجتمع السوريين" في لبنان كان ذكورياً مهاجراً. وعلى الرغم من نزوح آلاف العائلات إلى لبنان بُعيد الأزمة السورية، إلا أن معظم هؤلاء حُشروا في مخيمات النزوح، وبقي الطابع العام لهذا "المجتمع" ذكوريًا. وفي هذا المجتمع، تزداد المشاجرات والسرقات والتحرّش الجنسي والعنف والسُكر... إلخ. فإذا ماشينا القائلين إن نسبة السوريين إلى العدد الإجمالي للبنانيين باتت في حدود 30% (وهذا غير صحيح بل مجرّد تهويل)، فإن تلك الجرائم التي يرتكبها السوريون يجب أن تفوق الـ30%، بحسب بدهيات علم الاجتماع؛ فالجرائم في مجتمع المهاجرين ترتفع إلى أعلى من النسبة العددية، لغياب الرادع الأهلي والاجتماعي. وحقيقة الحال أن تلك الجرائم تهبط فعلياً إلى ما دون 15%، بحسب تفريغ تقارير الحوادث اليومية.
أين الملايين؟
تتجلى حملة الكراهية التي لا تتوقف، خصوصاً في وسائل الإعلام، في تضخيم أعداد السوريين في لبنان، والتحذير من مخاطر تلك الأعداد "الهائلة"، وإلقاء اللوم على السوريين في تراجع
النزوح السوري وآثاره الإيجابية
مثلما أطلق اللجوء الفلسطيني إلى لبنان في سنة 1948 فورة اقتصادية كبيرة آنذاك، ومثلما
يعرف كل مَن له إلمام بالاقتصاد أن قطاعات اقتصادية كثيرة في لبنان استفادت، بدرجات متفاوتة، من النزوح السوري، وكان أبرز تلك القطاعات: العقارات والمنازل المؤجرة (44 ألف منزل جرى ترميمها على عجل تلبية للطلب السوري في عام 2012 وأوائل العام 2013)، الاستهلاك اليومي، الطيران، الاستشفاء، التعليم، النقل، البناء، الاتصالات، الزراعة. وفي هذا الميدان، يشرح رئيس جمعية المزارعين اللبنانيين، أنطوان حويك، الحال بالقول، إن تأثير اللجوء السوري في القطاع الزراعي كان إيجابياً، فزاد الاستهلاك، وانخفضت أجور العاملين السوريين جرّاء زيادة المعروض من الأيدي العاملة. ومن جانب آخر، فإن المنتوجات اللبنانية التي ركد تصديرها منذ حرب يوليو/ تموز 2006، وتضرّرت، إلى حد كبير جداً، جرّاء انقطاع طرق التصدير (الترانزيت) إلى دول الخليج العربي، عوّضت جزءاً كبيراً من ركودها بالتصدير إلى سورية نفسها التي وجدت في البضائع اللبنانية بديلاً عن البضائع التي كانت تستوردها من هنا وهناك إلى موانئها مباشرة، أو رأت فيها بضائع يمكن إحلالها محل البضائع السورية التي تضرّر إنتاجها جراء الحرب المتنقلة في المناطق السورية، فضلاً عن مئات الجمعيات الأهلية التي تُعنى بالطفولة والنازحين والمرأة والتعليم والرعاية الصحية، والتي نبتت فجأة كالفقع، وراحت عجلاتها تدور وتتلقى الأموال من الجهات المانحة لإنفاقها على النازحين. والمؤكد أن أكثر من 70% من أموال المساعدات لا تصل إلى أصحابها على الإطلاق.
ازدهار يُرى بالعين المجردة
ازدهر كثيراً، في سنوات 2013 و2014 و2015، قطاع الشقق المفروشة والمنازل
سلبيات وأعباء
إن بعض المؤشرات السلبية العالقة بالاقتصاد اللبناني، والتي لا يتورع مسؤولون لبنانيون عن
خرافة المنافسة
يتوزع السوريون في لبنان على ست فئات واضحة المعالم (مع بعض التداخل في الفئتين الثالثة والرابعة) هي:
1- الأثرياء: وهؤلاء انتقلوا إلى لبنان بأموالهم وأفراد عائلاتهم منذ بداية الأزمة السورية، ومعظمهم كان يمتلك منازل ومصالح وحسابات مصرفية في لبنان. ومَن لم يكن يمتلك أي مصالح، عمد فوراً إلى شراء منزل، وأدخل أبناءه إلى المدارس الراقية أو إلى جامعات الدرجة الأولى. ولاحقاً افتتحوا مكاتب لإدارة أعمالهم التجارية بين أوروبا وسورية والخليج العربي. وأدخل هؤلاء إلى لبنان في السنتين الأوليين من عمر الأزمة السورية ما لا يقل عن تسعة مليارات دولار، فاضت بها المصارف اللبنانية، ومنحتها قدرة استثمارية فائقة.
2- الفئة الوسطى: وهؤلاء هم الذين استأجروا المنازل لإيواء عائلاتهم، وأدخلوا أولادهم إلى المدارس الخاصة اللبنانية وإلى الجامعات. وهذه الفئة، بسبب اتساعها العددي، هي التي تحرّك عجلة الاقتصاد الآن في لبنان، وبالتحديد عجلة الاستهلاك والخدمات، كالمأكل والمشرب وإيجارات المنازل والمطاعم والمقاهي والمدارس والهواتف. ومَن كان في أدنى سلم هذه الفئة، اعتاش، في البداية، على مدخراته، ثم راح يعتاش على تحويلات الأبناء الذين سافروا إلى دول الخليج العربي للعمل، أو إلى أوروبا للهجرة والدراسة، ولا تنافس هذه الفئة أحداً من اللبنانيين، بل تنفق أموالها ومدخراتها في شتى الحاجات.
3- الحرفيون: وهؤلاء يخفضون بأجورهم المتواضعة تكلفة الإنتاج في بعض قطاعات الاقتصاد اللبناني، ولا سيما قطاع الانشاءات والبناء، فالنجارون والحدادون والبناؤون والبلاطون وعمال الباطون والتوريق والأدوات الصحية وغيرهم، يجعلون تكلفة شقة سكنية متوسطة أقل بنحو مائة ألف دولار في ما لو كانت أجورهم تعادل ما يطلبه الحرفي اللبناني الذي يعمل ساعات أقل ويطلب أجراً أعلى ومستوى عمله أدنى سوية؛ وهنا تظهر المنافسة مع اليد العاملة اللبنانية.
4- أصحاب المهن البسيطة: وهؤلاء عمد بعضهم إلى افتتاح ورش ومحال، مثل الأفران ومطاعم مناقيش الصعتر والأجبان والدكاكين المتواضعة التي تبيع الحلويات أو الملبوسات السورية الرخيصة. ويشغّل هؤلاء جزءاً من اليد العاملة اللبنانية، وينافسون، في الوقت نفسه، بعض أصحاب المحال اللبنانية المماثلة.
5- العمال: ولا سيما عمال الزراعة (وهم موسميون) وعمال البناء والنظافة والخدمات، وهؤلاء لا يستغني الاقتصاد اللبناني عنهم، ولا ينافسون العمالة اللبنانية.
6- النازحون: وهم سكان مخيمات النزوح الذين يتلقون المساعدات العينية والنقدية من الدول المانحة التي تدفع عنهم أيضاً تكلفة الكهرباء وإيجار الأراضي التي تقوم عليها المخيمات ونفقات التعليم، والاستشفاء. والقليل جداً من هؤلاء يحاول أن يزيد دخله بالعمل في مواسم قطاف البطاطا أو الزيتون أو البندورة أو حتى الحشيشة.
هل ينافس اللاجئون السوريون اللبنانيين في الوظائف؟ بالطبع لا، لأن السوري لا يمكنه أن
عبء الأمن
لا ريب أن زيادة أعداد السوريين في لبنان يضع على كاهل الأجهزة الأمنية أعباء إضافية كبيرة، بل استنفاراً مرهقاً، خصوصاً أن جماعات سورية كثيرة منغمسة في عمليات الإرهاب، وهي تجند شباناً سوريين ولبنانيين للقيام بالإرهاب والقتل. لكن لنلاحظ أن نسبة الجرائم التي يرتكبها سوريون، إذا قيست بمجموع الجرائم المرتكبة فوق الأراضي اللبنانية، هي أقل بكثير من نسبة عدد السوريين إلى مجموع السكان في لبنان، فاللاجئون السوريون لا يديرون عمليات سرقة السيارات وزراعة حشيشة الكيف وتصنيع حبوب الهلوسة كالكبتاغون والهيروين، ولا يخطفون الأشخاص لقاء فدية، ولا يتقنون الاحتيالات المالية وتزوير العملات والشيكات عادمة الرصيد، ولا سرقة الأراضي الأميرية وأراضي المغتربين وبيعها بسندات مزورة... إلخ. فإذا وُجد سوري أحياناً ضمن مجموعة لسرقة السيارات مثلاً، فهو مجرد شغيل لدى معلم لبناني متوارٍ، والأمر نفسه يسري على إدارة أعمال الدعارة والقمار. والمعروف أن "مجتمع السوريين" في لبنان كان ذكورياً مهاجراً. وعلى الرغم من نزوح آلاف العائلات إلى لبنان بُعيد الأزمة السورية، إلا أن معظم هؤلاء حُشروا في مخيمات النزوح، وبقي الطابع العام لهذا "المجتمع" ذكوريًا. وفي هذا المجتمع، تزداد المشاجرات والسرقات والتحرّش الجنسي والعنف والسُكر... إلخ. فإذا ماشينا القائلين إن نسبة السوريين إلى العدد الإجمالي للبنانيين باتت في حدود 30% (وهذا غير صحيح بل مجرّد تهويل)، فإن تلك الجرائم التي يرتكبها السوريون يجب أن تفوق الـ30%، بحسب بدهيات علم الاجتماع؛ فالجرائم في مجتمع المهاجرين ترتفع إلى أعلى من النسبة العددية، لغياب الرادع الأهلي والاجتماعي. وحقيقة الحال أن تلك الجرائم تهبط فعلياً إلى ما دون 15%، بحسب تفريغ تقارير الحوادث اليومية.