مناظرات الغرب وثوابت الشرق
تعتبر المناظرات الانتخابية تقاليد ديمقراطية، ينظّمها الإعلام، لعرض البضاعة السياسية مباشرة من أفواه أصحابها، وهي مناسبة يقدّم فيها المرشح ما يملك من مهارة، وقد يكون تركيزه الأكبر لهزيمة خصمه على قوة شخصيته، أو سعة اطلاعه أو امتلاكه سرعة البديهة وإتقان تقديم الحجج. ويظهر في هذا الجو التناقض بشكل واضح، فطبيعة المناظرة تضع المتنافسين على طرفي نقيض، ويحرص كل مشارك على أن يبدو معاكساً لنظيره، ويستخدم أسلوب الاتهامات والتقليل من قيمة الخصم. تبدو مصطلحات اليمين واليسار مناسبة للمسافة الشاسعة التي تفصل بين الاتجاهات، وهي تفيد التناقض، بالإضافة إلى التباعد. ورغم أن ساعة أو ساعتين غير كافية للسياسي ليختصر نفسه، أو ما يمثله، إلا أن الأحزاب المعاصرة تعتمد على أداء زعمائها في هذه المناسبات. يبرمج المشاركون في هذه المناظرات طرق أحاديثهم وأساليب التعبير المناسب، وقد يتم تأليف "الإفيهات" الطريفة جيداً، وبعض المناظرات يمكن أن تكون عاملاً مهماً في حسم رأي ناخب متردّد، أو تعزيز الثقة بمرشّحٍ قدم أداءً متميزاً في مناظرته.
عُقدت خلال وقت قصير ثلاث مناظرات في ثلاثة من البلدان العريقة في الديمقراطية، أولها في فرنسا، حيث شارك ممثلون من اليسار واليمين والوسط في مناظرة سياسية مباشرة، بعد أن حل الرئيس ماكرون الجمعية الوطنية، ودعا إلى انتخابات جديدة، يرغب في أن يمسح فيها آثار انتخابات البرلمان الأوروبي التي قفز فيها اليمين المتطرّف إلى الواجهة. بعدها بأيام، تناظر رئيس الوزراء البريطاني المحافظ، ريشي سوناك، مع منافسه الزعيم العمالي، كير ستارمر، وهي مناظرة تسبق انتخابات مجلس العموم المبكرة التي دعا إليها سوناك نفسه، ويأمل أن يمدّ فيها حكم حزبه المستمر منذ 16 عاماً متواصلة. كانت المناظرة الثالثة بين الرئيس الأميركي جو بايدن ومنافسه دونالد ترامب، ويراقب العالم أجمع هذه المباراة، حيث يرغب الأخير في أن يعود إلى البيت الأبيض بعد أن هزمه بايدن في الانتخابات الماضية. ... هذه المناظرات مظهر ديمقراطي، فيه مصلحة للمرشّح الذي يقدم خلالها ما يقرّبه من الجمهور، وفيه مصلحة للناخب الذي يستمتع بالفرجة، وقد يستمع إلى البرامج السياسية المطروحة.
تظهر المناظرات أن المجتمعات الغربية مقسومة طولياً بشكل حادّ، ففي فرنسا هناك جنوح جنوني نحو الأطراف، أصاب ماكرون بالرعب، فدعا إلى انتخابات مبكّرة في محاولة لتصحيح الوضع، وما أظهرته المناظرة أن الحرب هي بين اليمين واليسار، وماكرون الذي نجح سابقاً في إيجاد مكان له في الوسط، يبدو أن تياره قد يُمسح لصالح الطرفين المتنافسين من اليمين أو اليسار. وفي المناظرة البريطانية، كان رجلان فقط، تمسّك فيها المحافظ بالسلطة وباع البضاعة نفسها، وهي الهروب من أوروبا والتركيز على هوية وطنية محلية. ورغم تعثر المحافظين الواضح الذي أطاح عدة رؤساء وزراء متلاحقين، ما زال سوناك يأمل من خلال مناظرته تجاوز اليسار العمالي الجديد.
قد لا تنطبق في أميركا مصطلحات اليمين واليسار، فلأميركا محتوى سياسي خاص، ويمكن أن تناسبها أكثر تسميات جمهوري وديمقراطي، لكنها تؤكّد أيضاً فكرة النقيض، فترامب هو الوجه المعاكس لبايدن، ويقدّم سياسة مختلفة، بحيث يظنّ من يشاهد المناظرة أن أميركا ستنقلب رأساً على عقب، إذا وصل ترامب إلى البيت الأبيض على حساب بايدن. وفي خضمّ هذا الحوار السياسي الصاخب، الذي يجري في جو ديمقراطي حافل، تجري في البعيد انتخاباتٌ أخرى ذات وجه مختلف في إيران، حيث قدّم عدة مرشحين للرئاسة أوراقهم، ورُفض من رُفضوا من دون معرفة السبب، وقُبلت ترشيحات آخرين سيخوضون "انتخابات"، دعا المرشد إلى أن تكون كثيفة جدّاً. وسيظهر رئيس إيراني جديد، من دون ضجيج المناظرات أو حلبة اليمين واليسار، فقد ابتكر مراقبو السياسة الإيرانية مصطلحي متشدّد وإصلاحي، ويتناوب على رئاسة إيران متشدّدون وإصلاحيون، من دون أن تتغيّر خلجة من خلجات السياسة الإيرانية المعروفة.