منتخب المغرب وقفزة الطموح العالمية
لا يمكنك اليوم تجنّب المقالات الكثيرة التي كتبت في صحافات عالمية عن مونديال قطر 2022، الناجح والمبهر بامتياز، وتجنّب ما كتب عن نجم هذه القصة الخيالية، المنتخب المغربي. ولأنها تزحمك رغم أنفك في كل منافذ التكنولوجيا الذكية اليوم، فلا بد أن يصيبك منها في النهاية حظّ من القراءة، وبعده حظّ من الدهشة، وأخيرا تذوّق تلك الفرحة الممزوجة بالفخر والرضا، لكن الأهم بالنسبة لكاتب هذه السطور حظُّ الرغبة في فهم ما حصل بعيون عالمية هذه المرة.
قدّم العالم لنا، في مدة يسيرة، كمّاً كبيراً من التحاليل والمواقف وردود الأفعال، التي ستساعد، من دون شك، في فهم دلالات سلوكاتنا العفوية، وفهم دلالات الإصرار عند الدول (نموذج قطر في تنظيمها المونديال)، وفهم التحوّلات التي عبرت إلينا من خلال هذا الجيل الكروي الجديد (منتخب المغرب).
ينقل كاتب العمود إيشان ثورور، في مقالة له في صحيفة "واشنطن بوست" (13/12/ 2022) تحليلا للباحثة القانونية الفرنسية ذات الأصول الجزائرية، ريم سارة علوان، عن منتخب المغرب، معتبرة إياهم ممثلين لجيل جديد من الرياضيين، لم تستطع النخب السياسية التقليدية لبلدان المهجر استيعاب تحولاتهم وآفاق وعيهم بعد، لأنهم، كما عبّرت، مرتبطون أكثر بالعالم بشكل عملي، ويمثلون هوية خاصة، تنهل من ثقافات متعددة. وتعتبر صاحبة المقالة اللاعبين خير ممثل لأخلاقيات العمل المغربية، وروح التصميم عندهم، وحدود الجسارة في اقتحام ما لم يقتحمه جيل المهاجرين الأول. وتورد المقالة أيضا تحليلا لماهر مزاحي، الصحافي المختص في كرة القدم في شمال أفريقيا، حيث تناول على وجه التحديد مدرّب الفريق وليد الركراكي، واعتبره ممثلا مثاليا لكل ما هو صحيح في الكرة الأفريقية؛ فهو شاب، وذو كفاءة، مؤمنٌ بالوحدة الأفريقية (ملاحظة في محلها يؤكّدها ذكر الركراكي أفريقيا في أغلب تصريحاته)، وهو عالمي في الآن نفسه، وأخيرا جسورٌ لا مكان للريبة وعدم الثقة في النفس عنده.
رياضة كرة القدم كانت بابا لنقاش حضور الإسلام، والجانب الهوياتي
انتشرت عالميا حسب المقالة ثيمات رمزية كثيرة على كل وسائل التواصل الاجتماعي، تناولت مباراة المغرب وفرنسا (وشملت أيضا المباراتين السابقتين، مع كل من إسبانيا والبرتغال)، معتبرة الأمر (وإنْ بطرق ساخرة) إعادة إحياء للفتوحات الإسلامية. إلى جانب وعي أوروبيين كثيرين إن المباراة مثلت نوعا من الطموح في تجاوز ذلك الشعور المستمر بالإهانة، حسب تعليق لأستاذة سياسات الشرق الأوسط في جامعة نيويورك أبوظبي، مونيكا ماركس. وهذا شعور ولّده ذلك الجرح الجماعي الذي مسّ الكبرياء التاريخي عند المغاربة، لكنهم هذه المرّة ممثلون للقارة الإفريقية والأمازيغ والعرب والمسلمين، ممن طالهم الجرح نفسه. وحسب استعارة الركراكي التي تنبهت لها مقالة إشان ثارور، تحوّل المنتخب المغربي تحول إلى البطل "روكي"، الذي حاز تعاطف العالم ومناصرته.
أخيرا، تخبرنا المقالة بأن أكثر الفيديوهات مشاهدة خلال المونديال مشاهد احتفال لاعبين من المنتخب المغربي مع أمهاتهم، عناقهن، وتقبيل رؤوسهن، ورقصهم معهن. وإذا ما أضيف إلى المسألة سجود اللاعبين المتكرر، فإن رياضة كرة القدم هنا كانت بابا لنقاش حضور الإسلام، والجانب الهوياتي، غير أنه هذه المرّة بنوع من العالمية الجذّابة التي خطفت انتباه الجميع.
ومن الأشياء المهمة في تحليل إشان ثارور رصده ردات الفعل الأوروبية على احتفالات أبناء الوطن/ المهاجرين، سواء تصريحات السياسي الفرنسي اليميني المتطرّف، إريك زيمور، الذي عدّها نوعا من التهديد الأمني. نضيف إليها موقف قنوات أوروبية عدة، سواء في ألمانيا التي وصفت رفع لاعبي المنتخب المغربي أصابعهم سلوكا داعشيا، أو القناة الدانماركية التي شبّهت رقصة اللاعب بوفال مع والدته برقصات القرود. (ولننتبه هنا، يسخرون هذه المرّة من رقصنا، وليس من سلوك عدواني قمنا به!)
ولاحظ كيفين باكستر في مقالة له في صحيفة "لوس أنجلوس تايمز" (12/12/ 2022) أن احتفالية الدول العربية بالمغرب، وافتخارها الكبير بالمنتخب، إلى جانب رفع اللاعبين المغاربة العلم الفلسطيني لحظات انتصارهم، أحيا هذا كله ما اعتقد الجميع موته، وهو القومية العربية. واستعار باكستر قفزة اللاعب يوسف نصيري التي سجّل بها هدف النصر على المنتخب البرتغالي، ليعتبرها القفزة المعبرة عن الطموح العربي الذي جسّده المغرب بنجاح.
يعلّمنا مونديال قطر، وقصة المنتخب المغربي الخيالية، أننا قادرون فعلا على أن نرتبط مجدّدا بالعالم، لكن بطرق صحيحة
ما يهمّنا، في كل ما ورد من تعاليق وتحاليل، أننا، نحن العرب، محظوظون بأن توجّه إلينا أعين الرقيب العالمي، لأنه اهتمام ولّدته عزيمة دولة قطر في تحدّي تنظيم كأس عالم أول مرة في بلد عربي، وقد تابعنا جميعا حجم الهجوم الشرس الذي واجهته جرّاء ذلك، وتحت مسمّيات عدة، غير أن الصحّي في ذلك كله أننا حينما نتحدّى أنفسنا، وحينما نحاول أن ندخل المنافسة العالمية، نكون أمام مرمى النقد العالمي أيضا، فلا يمكن تصوّر أن يُسمح لك بالدخول هكذا من دون أن تُعتصر كل جوانبك الحضارية. وهذا ما يفسّر أيضا ردّة الفعل الطبيعية للجسد الأوروبي، بتمثلاته المختلفة التي عبر عنها الاعلاميون والصحافيون والكتّاب والسياسيون وغيرهم. .. إذن، لكي تكون في قلب العالم، لا بد أن تستعد للعب بشكل احترافي في منافسةٍ ليست الكرة وحدها من يمثلها، وإنما هي جانب منها فقط.
يعلّمنا مونديال قطر كذلك، وقصة المنتخب المغربي الخيالية، أننا قادرون فعلا على أن نرتبط مجدّدا بالعالم، لكن بطرق صحيحة، كما فعل لاعبو المنتخب المغربي (الشباب ذو الأفق العالمي)، وكما فعلت الدولة المنظمة. ونتعلم أيضا أن هنالك قواعد للتعبير عن الثقافة والحضارة والمواقف وقواعد عالمية لإثبات الذات، تتمثل، ببساطة، من خلال القنوات العالمية التي هي موضع المنافسة عند الجميع، والتي هي، في الآن نفسه، أمام مرمى النقد عند الجميع. ولهذا فإن تناسب الجهة المنظّمة، وطموحها وكفاءتها وجدّيتها، مع روح جيل المنتخب المغربي، قدّم وصفة عالمية فريدة هذه المرّة، للتعبير عن سقف التطلعات الأفريقية والعربية والأمازيغية والإسلامية عالميا.
وأخيرا، ليست مستغربة بتاتا ردات الفعل والتعليقات والانتقادات، كما ليس مستغربا حجم الانتباه الذي حظي به منتخب المغرب ولاعبوه، بل سعداء نحن بأننا وجدنا مثالا يمكن أن نعتمده في التواصل مع العالم.