منديلو الحلو يا منديلو
"الممسحة" في الأدبيات السياسية معروفةٌ للأعمى والبصير، وهي أن يستخدم الملك وزراءَ وقادة، ويكلفهم بأمورٍ قذرة، فإذا فُضحت، تخلّص منها بعد مسح يده منها وبها. ولكن، لحكمة خفية لا يعلمها إلا الله، استغنى أبو الهول المصري عن الممسحة، ومسح يده بالعلم الوطني، أفضل أنواع المناديل السياسية.
اعترف أبو الهول، بعظمة لسانه، واللسان عضلة خالية من الحسك، جعلتها البلاغة المصرية صلبة، وجهر قائلًا إن وزراءه نصحوه ألا يرتجل (لعيّه الظاهر وفهاهته)، ونصحوه نصائح أخرى، مثل تأجيل بناء المدينة الإدارية، لكنه يقول، كل مرّة، بعظمة لسانه، "أشيلها أنا ويحاسبني ربنا"، فهو، لشجاعته في الباطل، وغروره على الحقّ، لا يجد نفسه محتاجًا الممسحة، ولن تعدمه الحيلة إذا حان أوان الحساب في التخلّص من بعض مناديله الكثيرة.
يقول الخبراء في الشأن المصري إنّ الشعب المصري لم يثر في تاريخه الطويل، الذي اشتهر بتحنيط الفراعنة الموتى والشعب الحي سوى مرّة هي ثورة يونيو، فمنديله النكتة، وقد دارت الأيام ومرّت الأيام، ما بين خصام وخصام، حتى سلب أبو الهول المصري من فمه النكتة، كما سرق اللقمة، فاحتكرها أيضًا، وأبطل سوق أصحاب الكوميديا، "مش كده يا دكتور مصطفى". وقد يتحوّل دكتور مصطفى إلى ممسحة إذا احمرّت الحدق وحمي الوطيس، فالرئيس يكذب كثيرًا، وليس له عهد، ولا يصدُق له وعد، وهو يغزل في المجلس الواحد أغزالًا وينقضها أنكاثًا. إذا كان النبي سليمان عليه السلام قد أوتي ملكًا لم يُؤته أحد من العالمين، وخدمته عفاريتُ من الجن، أتته بعرش بلقيس قبل أن يرتدّ إليه طرفه، فلدى أبو الهول المصري عفاريت من الأنس، يحملون عرش مصر إلى أعدائه، ويجمّلون بوائقه قبل أن يرتدّ إلينا طرفنا، وهؤلاء العفاريت أقلّ من أن يوصفوا بالمناشف، فهم أحماضٌ كيماوية تكوي العقول، وساءت مرتفقا.
وقد تكون الممسحة واقعةً وملحمة، مثل ثورة يونيو التي تُنسب إليها كل الرذائل، وقد يتحوّل المعارضون إلى مناديل كلينكس وخطيئة أولى. وعند هلاك باسل الأسد، عرضت جنازته عل التلفزيون. وفي الوقائع الحية، يصعب على أدهى المصوّرين تدارك عثرات الكاميرا، فرأينا رئيس الوزراء محمود الزعبي يسعى إلى حمل نعش المصروع، فلا يجد إلى النعش سبيلًا، مع أن رتبته في السلطة الظاهرة هي الثانية، ثم رأيناه مُطاحًا بين الأقدام، ولم يلبث أن نُبذ في سلة المهملات، ثم أعلن انتحاره بثلاث رصاصات في الرأس.
الممسحة السياسية آلة سياسية فاتكة، صيغت على شكل نظريةٍ في الحكم، بقولهم "إن الرئيس كويّس بس اللي حواليه"، فالذين حوله دوبليرات، بل يظهر الرئيس في الإعلام الرديف كأنه معارض قليل الحيلة. والممسحة اسمٌ شائع في العاميتينن السورية والمصرية، وفي لسان العرب هي المنشفة (وهذا استطراد لغوي) ولها أسماء أخرى مثل، الهِرْشَفَّة: وهي خِرقة يُنشَّف بِهَا الْمَاء، ذهبت إلى الإنكليزية فصارت Handkerchief، وقد تكون الكرسفة، وهي قطنة يمسح بها الدم، لكن الملوك الأفاضل يمسحون بالسادة الكراسف موضعًا آخر، نأنف عن ذكره.
وقد يقول القارئ: لقد خلطتَ، أيها اللوذعي، بين نوعين من المناديل، عام وخاص، فأضيف لهم قائلًا إنّ المعارضة قد تلعب دور الممسحة، وذلك لأن أقذار الطاغية تحتاج أنواعًا كثيرة من المناشف والمكاوي. وقد أدرك الاستعمار الأجنبي فن استعمال المناشف الوطنية في أوائل القرن العشرين، فانسحب من البلاد المحتلة، واستخدم مناشف سياسية محليّة الصنع، فرؤساء بيننا أيضًا مناشف لبراثن المستعمر القذرة.
لتجدنَّ تقارير صحافية إعلامية غربية، حسنة الطلاوة، عليها حلاوة، تسخر من حكّامنا العرب، وهي تقارير يمسح الغرب بها أوساخ ضميره، وننشف بها دموعنا. وقد يعطف علينا الغرب، فيورّط رئيسًا في برنامج تلفزيوني مثل برنامج "60 دقيقة"، كما حصل لأبي الهول المصري. وقد تغسل المنشفة كما يحدث للممسحة السورية في مغاسل الملوك العرب، باسم التطبيع، والخطوة خطوة، وتاته يالله يالله، من غير نجاح، وقد تتحوّل الممسحة إلى راية قذرة يستعلي بها الغرب، لبرهان أنَّ الغرب ديمقراطي بالعنصر، وأن العرب استبداديون بالفطرة.