من أو ماذا بعد محمود عباس؟
تتمسّك السلطة الشكلية الوظيفية الفلسطينية بكامل تقاليد المنظومة العربية الرسمية، وفي مقدمها تبادل السلطة بعد الوفاة، أو العجز الصحي الكامل، وهو ما يسلّط الضوء على نهاية رئاسة محمود عبّاس السلطة الوطنية ومنظمة التحرير وحركة فتح على سواء. وكأننا أمام مجهول قادم لا محالة، مجهول يتخوف منه بعضهم، وربما الغالبية، في حين يترقبه آخرون، بفرح وشوق يصعب احتمالهما. لكن هل يستحق هذا المجهول كل هذا الترقب والانتظار والتوجّس؟
تغذّي بعض التقارير الصهيونية، الإعلامية والأمنية مخاوف بعضهم من المرحلة التي تعقب رئاسة محمود عبّاس، على اعتبارها مجهولاً مفتوحاً على احتمالاتٍ خطيرة، يتخلّلها صراع بين مراكز القوة في سلطة رام الله، وتحديدا بين قياداتها الأمنية. طبعا، لا تطرح التقارير الصهيونية المسألة من زاوية المصلحة الفلسطينية، بل من زاوية المصلحة الصهيونية، وخصوصا؛ بما يتعلق بكفاءة أجهزة السلطة الأمنية، في ممارسة وظيفتهم تجاه حماية الاحتلال، وضبط الشارع الفلسطيني، أو بالأصح جزء منه. حيث تحذّر هذه التقارير من تبعات أي صراع عسكري على خلافة عبّاس بين مكونات سلطة رام الله الوظيفية، الأمر الذي قد يتسبّب في تخفيف القبضة الأمنية على الشارع الفلسطيني. وتحذر أيضا؛ من احتمال مشاركة حركة حماس، أو خلاياها النائمة في هذا الصراع، وهو ما يفتح الباب؛ أمام احتمال سيطرة "حماس" على سلطة رام الله، أو يخفف من القيود التي تكبل عمل خلاياها النائمة اليوم.
إذاً يكمن القلق الصهيوني من الفلتان الأمني ومن سيطرة "حماس" على السلطة، نتيجة تبعات كل منهما على أمن الاحتلال ذاته، بمعنى يتخوّف الاحتلال أن يؤدي ذلك إلى تحرّر الكتلة الشعبية الفلسطينية من قيود السلطة الأمنية التي تنعكس في تصاعد المقاومة الشعبية داخل مجمل مناطق سيطرة سلطة رام الله، وربما كل فلسطين لاحقاً. تبدو تلك المخاوف حقيقيةً في حسابات الاحتلال، إلا أن جزئية صغيرة تغيب عنه، لكنها مفصلية وحاسمة، مفادها بأننا أمام سلطة شكلية، لا تملك قرارها، ولا تقدر على البقاء بعواملها الذاتية، فالاحتلال يتحكّم بجميع مواردها المالية، التبرّعات والحركة التجارية إلى ما هنالك، وكذلك بالحركة داخلها ومنها وإليها، وطبعا يتحكّم بالحركة الجوية؛ على فرض وجودها، وهو ما تدركه جميع مكوّنات السلطة وجميع مراكز قوتها، الأمنية والسياسية والتنظيمية والمالية.
يجب الحذر من محاولات الالتفاف والخداع التي يمارسها بعض معارضي سلطة رام الله، عبّاس تحديداً، الذين يدّعون معارضتهم نهج أوسلو، لكنهم يتمسّكون بالبرنامج المرحلي
استناداً إلى ذلك؛ لا تملك مراكز السلطة قرار خلافة عبّاس، فهو قرار صهيوني بالدرجة الأولى، وأميركي بالدرجة الثانية؛ أو العكس، وعليه فاحتمال الصراع الأمني شبه معدوم، بل يكاد يكون مستحيلاً؛ من وجهة نظر الكاتب، إلا بقرار صهيوني مباشر، يهدف إلى تقسيم مناطق الضفة إلى سلطات أمنية متناحرة ومتنافسة، تماما كما يحدُث بين سلطتي رام الله وغزة، لكنه احتمال مستبعد الآن، نتيجة متطلباته اللوجستية العديدة التي لا يملكها ولا يسيطر عليها الاحتلال الآن. وعليه، وبالعودة إلى امتلاك الاحتلال مفاتيح خلافة محمود عبّاس، تثير التقارير الصهيونية المشار لها أسئلة عن أسباب نشرها، وهنا نطرح احتمال استهدافها الشارع الفلسطيني بعينه، فتلك التقارير تغذّي مخاوف جزء من الفلسطينيين، وبالتالي تكبّلهم، خوفا من المرحلة التي تلي محمود عبّاس، وتحدّ من قدرتهم على الحركة والفعل السياسي، حذراً من تبعات أي تحرّك على الأوضاع في مناطق السلطة بعد محمود عبّاس. إذاً؛ تهدف التقارير إلى حماية سلطتها الوظيفية الشكلية، من موجات الغضب الشعبي، التي قد تطيحها ومؤسساتها الأمنية، وتفرض على الاحتلال الصهيوني ممارسة احتلاله بشكل مباشر مجدّداً.
بناءً على ذلك؛ يمثل محمود عبّاس جزءاً بسيطاً من منظومة السلطة الوظيفية الأمنية، وإنْ كان ممثلاً صادقا لها، وعليه لن تتأثر منظومة السلطة بتغيير رئيسها، بغض النظر عن اسم خليفة عبّاس، فالمهم هنا دوراه السابق واللاحق، وهو ما يجعل من مرشّحي خلافة عبّاس قلة قليلة، ممن تختلف أسماؤهم وتتطابق توجهاتهم. وهنا لا بد من التمييز بين معارضي عبّاس ومعارضي السلطة، فالمجموعة الأولى تحرّكها عوامل مصلحية ذاتية غالباً؛ تستند أحياناً إلى مصالح مناطقية؛ لا تجد أي تناقض جذري بينها وبين دور السلطة ومؤسساتها. أما المجموعة الثانية؛ فتعبر عن تناقض بنيوي وقيمي واستراتيجي مع السلطة، كلّ السلطة، قبل مرحلة عبّاس وبعدها، فهي ترفض التنازل عن أيٍّ من الحقوق الفلسطينية الكاملة، كما ترفض المساومة عليها. وبالتالي هي لا تعارض السطلة فقط، بل تعارض حاملها الرئيسي الذي يعود بنا إلى أولى خطوات الانحراف، والمتمثلة في البرنامج المرحلي.
لا تملك مراكز السلطة قرار خلافة عبّاس، فهو قرار صهيوني بالدرجة الأولى، وأميركي بالدرجة الثانية؛ أو العكس
طبعا، قد تنطلق نشاطات (واحتجاجات) المجموعة المعارضة الثانية، نقيضة السلطة والبرنامج المرحلي، من قضايا اجتماعية ومطلبية واقتصادية وثقافية مناطقية أحياناً، لأغراضٍ تعبويةٍ وتحريضية، وهو ما يتطلب منها جهداً إضافياً كبيراً، من أجل ربط معارضتها المناطقية مع جذر المشكلة الرئيسي، المتمثل في المساومة والتنازل عن الحقوق الفلسطينية. كما لا بد من الحذر من محاولات الالتفاف والخداع التي يمارسها بعض معارضي سلطة رام الله، عبّاس تحديداً، الذين يدّعون معارضتهم نهج أوسلو، لكنهم يتمسّكون بالبرنامج المرحلي. كونهم يبحثون عن موقع سلطوي، لا أكثر ولا أقل، وإن كان طموح بعضهم منصبّا على رأس الهرم السلطوي، كما في معارضة حركة حماس وغالبية القوى الفصائلية الفلسطينية، اليسارية واليمينية، القديمة منها والحديثة.
من ذلك كله، لا تستدعي المرحلة التي تلي عبّاس أيا من مشاعر الفرح أو الفزع، فواقع السلطة الحالي والمستقبلي يثير الحزن والغضب والخوف، بغضّ النظر عن هوية رئيسها، وهو ما يتطلب عملا ونضالا شعبيا كثيريْن من أجل تجاوز ذلك. بمعنى آخر، إن التعويل على تغيير سلطوي سلس وجذري، عبارة عن وهم خادع يعيق النضال من أجل حل المشكلات الفلسطينية البنيوية، بداية من الانحراف الأول، البرنامج المرحلي، ويمنح الاحتلال وداعميه ووكلاءه في السلطة مزيداً من الوقت الضروري لتثبيت السلطة الوظيفية الأمنية، وتفتيت المجتمع ومحاصرة قواه الشعبية الثائرة. لذا، وبدلاً من ترقب مستقبل السلطة، علينا تكريس جهودنا على حاضرها، وعلى حاضرنا الفلسطيني، من أجل استعادة المعبر والممثل الحقيقي لقضية فلسطين وشعبها، المتمثل بحركة تحرّرها الوطنية والتقدّمية.