من بحر البقر إلى الحُديدَة
أوّلُ القول ومُنتهاه بشأن العدوان الإسرائيلي على اليمن مساء أول أمس إن يد دولة الاحتلال طُولى، في وُسع سلاح الجو فيها أن يضرِب أين شاء ومتى شاء. يُنبئنا قادة إسرائيل، في الواقعة غير المفاجئة، أن ميناء الحُديدة ليس أبعد من حمّام الشط في تونس لمّا طاول سربٌ من طائرات إف 15 مقرّ قيادة منظمّة التحرير الفلسطينية هناك في أكتوبر/ تشرين الأول 1985. دلّ ذلك الاعتداء أن في وُسع يد إسرائيل أن تضرِب على مبعدة 2200 كيلومتر، وليس فقط على مبعدة نحو 1100 كيلومتر لمّا ضربت في يونيو/ حزيران 1981 المفاعل النووي العراقي قرب بغداد... هنا مربط الكلام، السّماءُ العربية مستباحةٌ لإرادة جنرالات "جيش الدفاع" الإسرائيلي. ليست الـ 1700 كيلومتر مسافةً عصيّةً على طائرات إف 15 الأميركية في حوزة سلاح الجو، المقاتلات الأكثر تأهيلاً وحداثة وتقانةً من مثيلاتها التي ضربت في العراق وتونس في النصف الأول من ثمانينيات القرن الماضي. وفي الأنباء أنها 20 طائرة، بعضُها إف 35، شاركت في قصف ميناء الحُديدَة اليمني وخزّانات نفط ومحطّة كهرباء هناك، على ساحل البحر الأحمر. ما أرادت دولةُ الغزو والعدوان أن تذكّر به العرب، إن كانوا قد نسوا، أنها ليست هي التي تجعل وصول مسيّرةٍ من موقعٍ ما في اليمن إلى تل أبيب، لتقتل إسرائيلياً وتجرَح غيره، حدَثاً عارضاً، إذ لا يجوز عدم "القصاص"، ولا النومُ على فعلٍ فادح من هذه المنزلة. تماماً، كما ليس مأذوناً للعراق، في زمن صدّام حسين (أو غيره؟)، أن يُحرز برنامجاً نووياً، صحّ ما قيل إنه لمنافع سلمية أم لم يصحّ. وليس مأذوناً لسورية المنتهَكة، المدمّاة بفشل نظام الأسد الأب والابن، أن تمتلك أيَّ قدراتٍ نووية، ولو على مستوى منشأةٍ متواضعة الأهمية في دير الزور، فاستحقّت هذه قصفاً إسرائيلياً، ولو قالت دمشق، في حينه، إنها قاعدةٌ عسكريةٌ مهجورة، فالأهم ما قاله إيهود أولمرت إنه أخبر الرئيس جورج بوش الابن بالعملية دقائق قبل انطلاقتها، ليكون في صورتِها، وليس لأخذ ترخيصٍ منه يجيز الضربة نفسها.
المسافة التي قطعتها ثماني طائرات إف 15 وإف 16 الإسرائيلية لقصف تلك المنشأة "النووية" السورية، في سبتمبر/ أيلول 2007، مشابهةٌ للمسافة التي قطعتها أربع طائرات فانتوم 4 أطلقها سلاح الجو الإسرائيلي على مدرسة بحر البقر الابتدائية في محافظة الشرقية في مصر صباح 8 إبريل/ نيسان 1970، واستُشهد 30 تلميذاً مصرياً، وأصيب 30. أما مسافة الزمن بين الاعتداءَين فلا يُعتدّ بها، فالزمن العربي ميّت، على ما يؤكّد هذا القصف اليومي الذي يستهدف به سلاح الجو الإسرائيلي بمقذوفاته، وسلاح المدفعية براجماته، مدارسَ غزّة، وكذا استشهاد آلاف التلاميذ والطلاب في القطاع المنكوب في اعتداءاتٍ لا تتوقّف. كما أن هذا الزمن ميّت، بدلالة المزاعم نفسها التي تُواظب عليها دولة العدوان، فعندما تدّعي أن المستشفيات والمدارس التي تقصفها، وتُميت فيها من تُميتُهم، مراكزُ يختبئُ فيها مسلّحون من حركة حماس، تذكّر بزعمها المعلن لمّا ضربت المدرسة المصرية تلك، وقالت إنها منشأة عسكرية مخفيّة (!)، وذلك في غضون حرب الاستنزاف مع الجيش المصري الذي أبلى فيها جيّداً على ما يحسُن أن نتذكّر.
ذلك العدوان على مدرسة بحر البقر (لنسمع أغنية شادية "لِمّوا الكراريس") مسبوقٌ بغير اعتداءٍ إسرائيلي على مصر، استهدف أحدُها مصنعاً، فقضى فيه 70 عاملاً مصرياً. والعدوان على اليمن، أول من أمس، مسبوقٌ بما لا عدّ لها من طلعات أسرابٍ من سلاح الجو الإسرائيلي فوق سورية (لا تُنسى التحليقات فوق سُكنى بشّار الأسد)، وكذا نوبات قصفٍ واعتداءاتٍ على مواقع عسكرية لم تعُد في الوسع حسبتُها، في هذا البلد الذي لا يغيب عن البال أن باني مؤسّسته الأمنية والبوليسية، حافظ الأسد، اشتهى له "توازناً استراتيجيّاً" مع إسرائيل، وها نحن نشهد ما أحدثته جرائم القصف والقتل، بغاز السارين وغيرِه، على بيوت سوريين آمنين، من لجوءٍ سوريٍّ مشهود في أصقاع الأرض... ضربة الحُديدة مسبوقةٌ ومتبوعةٌ باستباحةٍ إسرائيليةٍ لا تتوقف في سماء لبنان، بعدوانٍ تلو آخر... وفي الأول والأخير، مسبوقةٌ ومتبوعةٌ بانكشافٍ عربيٍّ مريع، ليس أحدٌ يعلم منتهىً له.