من خدش الرونق: صرخة قاضٍ
كنا في قلب الربيع، مارس/ آذار 2012. كانت مصر لا تزال متوضئةً بماء الثورة، وتريد أن تنجز مهام الإصلاح والتطهير، والتطهّر من الإرث القبيح، وكان تطهير القضاء مطلباً للقضاة أنفسهم.
لا أنسى تلك الأيام التي التحم فيها القضاة بالشعب، وطلبوا منه أن يعينهم على الانعتاق من سطوة السلطة السياسية، فكان اقتراحٌ من عدد كبير من القضاة الأجلاء بتخصيص جمعة ثورية، تنادي باستقلال القضاء.
كانت المناسبة ظهور مرفق العدالة مجروحاً ومهاناً، بفعل ذلك القرار السياسي العسكري الذي أذعن للإرادة الأميركية، وأطلق سراح الأميركيين المتهمين في قضيةٍ شهيرة، هي قضية منظمات المجتمع المدني، فسافروا على متن طائرةٍ أميركيةٍ أقلعت بهم، فيما واصلت السلطة تنكيلها بالمصريين الذين شملتهم القضية ذاتها.
كان لي شرف المشاركة مع معشر القضاة للحشد والتنسيق لتلك الجمعة (16 مارس/ آذار 2012 )، وانضم زملاء صحافيون فنانو جرافيك تطوعاً لتصميم البوسترات والشعارات، وطُلب مني الإسهام في صياغة بيان الدعوة، فاقترحت أن يكتبه قاض ثوري من جيل الوسط، على أن أنظر في صياغته فيما بعد.
هل من المهم هنا الإشارة إلى أن القاضي" الينايرجي" تحوّل إلى المعسكر الآخر في الثلاثين من يونيو/ حزيران 2013؟
لا يبدو ذلك بأهمية البيان البديع الذي كتبه القاضي الذي سأحتفظ باسمه، كي لا يكون عرضة للانتقام بأثر رجعي، وأكتفي بنشر كلماته التي تلمس العصب الحسّاس فيما يتعلق بمسألة "خدش رونق القضاء"، تلك التهمة العبثية الموجهة إلى الصحافي المصري، طارق حافظ، لأنه تجرأ ونشر بالمستندات عن مهازل في تعيين أبناء القضاء وضباط الشرطة في سلك النيابة العامة، من بينهم ضابط سابق متهم بالتعذيب.
إليك ما كتبه القاضي الثائر عن العدل والقضاء والرونق:
العدل مفقودٌ في مصر، منذ أكثر من نصف قرن، هذه هي الحقيقة. إن كل المؤسسات التي تحملت بأمانة حفظ حقوق أفراد الشعب مصابةٌ بالعجز، من دون استثناء، وإن اختلفت الأسباب. التخلف الإداري، الزحام، البطء، الإرادة السياسية للحكام، الإفساد والتطويق والتحييد والاستقطاب وشراء الذمم، والضغط والإرهاب والمراوغة والالتفاف، حدّث ولا حرج. كلها أسبابٌ يعرفها المصريون جيدا، ربما أكثر مما يعرفون أبناءهم وزوجاتهم، وعاشوا في ظلها عشرات السنين. القضاء المصري ليس استثناءً من العجز، ولكل عجزٍ أسبابه! إن مبدأ سيادة القانون غاب عن مصر، ليغرق الناس في الذل والقهر والفقر، ولا ينطبق القانون في مصر بحذافيره إلا على من لا حيلة له، ومن ليس لديه حل آخر، كأن يكون أميركيا، أو سائحة أجنبية شهيدة أكلتها سمكة قرش، فاستحقت أسرتها خمسين ألف دولارا، تدفعها الحكومة التي تذل اليوم أهالي الشهداء الأطهار، وتطارد الثورة والثوار، وبمبوطي بورسعيد تقتله رصاصةٌ أمريكية في مياه القناة، ليخرج علينا مفيد شهاب ليقول أن الخطأ مشترك. إن مصر لا تعرف سيادة القانون، هذه هي الحقيقة الثانية، أصبح القويّ فيها يأكل الضعيف، ولم يعد في مصر سوى قيمة أخلاقية واحدة، وهي أن الغاية تبرّر الوسيلة. ولعل في هذا المعنى الأخلاقي التفسير السحري لكل ما رأيناه مؤخرا على الساحة السياسية خلال الأشهر الأخيرة، وأين القضاء من كل ذلك؟ عاجز، مطوق مزدحم بطيء، إن العدل البطيء هو لا عدل، لأنه لا يرد الحقوق إلا بعد ضياعها وضياع أصحابها، فتنتصر القوة الغاشمة السريعة على العدل الأعرج البطيء. ويستمر تطويق القضاء، يُخلق قضاء مواز يسلب القضاء ولايته، والقضاء الموازي هو قضاء الحكام المفضل، لأنه سريع، ولأنه ظالم، ولأنه عسكري!
نيابة عامة دورها أن تمثل المجتمع، ولكنها اختارت أن تنتقي وتختار من تمثله، فتحرّك من البلاغات ما يعجبها، وتلقي في الأدراج بالبلاغات التي لا تعجبها، وبفضل النائب العام لا يتبقى إلا أن تغير إسمها ليصبح النيابة الخاصة! والنتيجة أن تحولت شوارع مصر إلى غابةٍ مفتوحةٍ يضيع فيها الأمان، وتنتهك الحرمات. هذه هي الحقيقة الثالثة والأخيرة لكل من يريد أن يواجه الحقيقة، أو يجرؤ حتى على الاقتراب منها، أو الاعتراف بها أو مواجهتها.
نريد استبدال "الغاية تبرّر الوسيلة" ب"لا يصحّ إلا الصحيح". لن تقوم لمصر قائمةٌ بين الأمم، ما لم تكن هذه القيمة هي البداية، وإن كانت محفوفةً بالصعوبات، الضمير.
بداية مصرية قوية نقية شفافة صادقة قادرة على التطهر من الظلم والظلمة والظلمات. إن قضاء مصر في كل هذا يعاني كل المعاناة، ويئن كل الأنين، ويكابد كثير من رجاله الشرفاء، يريدون له أن يستقل، بينما يقسم القلة إلا أن يحطموا كل جهدٍ بذلوه في كل مرة، ويضيعوا كل معاناةٍ كابدوها من أجل الحق، ولن ينقذ القضاء من محنته، إلا أن ينصره الشعب. القضاء يستجير بالشعب مصدر السلطات، من أجل استقلاله.
إني أدعو شعب مصر لمقاطعة كل المحاكمات العسكرية، وأن يمتنع عن التعاون مع كل أجهزتها. إني أدعو شعب مصر للوقوف بالمرصاد لمجلس الشعب، وعلى أبوابه، لإصدار قانون السلطة القضائية الذي يغلّ يد رسل الظلام عن القضاء. إني أدعو شعب مصر لوقفةٍ لإرغام الحكام على احترام إرادته بكل الوسائل والطرق. إني أدعو كل مصري، لم يفقد الأمل في العدل، أن يقسم معي بالله العلي العظيم إنه لن يسكت على ظلم، ولا على ظالم، وألا يقول إلا الحق، وألا يرضى لغيره ما لا يرضاه لنفسه، وإلا فالكل هالك، اللهم إني قد بلغت، اللهم فاشهد.