09 نوفمبر 2024
من دروس إسحق الفرحان
عندما تطالع سيرة القيادي الإسلامي والتربوي والمعلم والوزير الأردني، إسحق الفرحان (توفي أمس عن 94 عاما)، تُصاب بمقادير غزيرة من الدهشة، لتنوع المواقع والمشاغل والمهمات والوظائف والمسؤوليات التي تولاها هذا الرجل المحترم، وأدّاها ونشط فيها، ومن تعدّد المجالات التي أعطى وساهم فيها، وفي إنتاج المؤلفات، وعضوية المجالس العلمية، ومشاركاته في العمل التطوعي، وأدواره في تطوير المناهج التعليمية في بلده، وفي غير بلد عربي (قطر مثلا). ولكنّ أمرين جوهريين، من الميسور أن تقع عليهما في أثناء استعراض هذا كله، منذ عمله مدرسا للعلوم للمرحلتين الإعدادية والثانوية في مدينة السلط الأردنية في 1958 وانتهاء بمغادرته رئاسة مجلس شورى حزب جبهة العمل الإسلامي في العام 2002، وقد كان من أبرز مؤسسي هذا الحزب، وأمينا عاما له في 1998، وهو (الحزب) الذراع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين في الأردن.
أول ذينك الأمرين أن إسحق الفرحان اتّصف بالعقلانية والحكمة، وبالتخفف من قيود الأيديولوجيا. وإذا كان يُقال، في عقود الأحكام العرفية واختناق المجال السياسي في الأردن، إن النظام كان مهادنا جماعة الإخوان، وإن هذه الجماعة ساهمت في بناء الدولة الأردنية، (ثمّة من حسبوها على النظام نفسه)، فإن أول الشواهد على صدق هذا القول وجود إسحق الفرحان وزيرا في غير حكومةٍ في تلك الأزمنة، وتسلمّه مواقع وظيفية متقدّمة، فقد تولى وزارتي الأوقاف والتربية والتعليم في العام 1970، في حكومة وصفي التل. وفي الوسع أن يشار هنا إلى المنبت الفلسطيني للرجل (من عين كارم قرب القدس)، الأمر الذي لم يمنعه عن الانتساب إلى تلك الحكومة في غضون أجواء أيلول الأسود وما بعدها. ثم كان وزيرا في حكومات أحمد اللوزي وزيد الرفاعي حتى 1973، ليغادر بعد ذلك المواقع الوزارية، فينخرط أكثر وأكثر في الحقل التربوي والتعليمي، أستاذا جامعيا وخبيرا تربويا وعضوا في مجالس متخصّصة، ورئيسا للجامعة الأردنية. ومن كثيرٍ يعنيه هذا أن "إخوانية" إسحق الفرحان لم تجعله يُخاصم النظام، ولا حتى أن يكون معارضا له، ذلك أن رؤيته قامت على أهمية الفاعلية في العمل العام، وعلى ضرورة خدمة الدولة والمجتمع في آن. ولا يتزيّد أبدا من يرى أن هذا الرجل المحترم أجاد وأبدع في المواقع التي تولاها. والإجماع الوطني الأردني العام، من قوى السلطة وقوى المعارضة، على احترامه وتقدير منجزاته، في حياته، وعلى تعداد مناقبه عند رحيله، دليلٌ على استثنائيته ونزاهته.
ثاني الأمرين الجوهريين أن الفرحان، في موقع المعارض في طورٍ متأخر في حياته، كان يرى السياسة عملا يشتبك بالشأن العام من أجل مصلحة الدولة والشعب. ولذلك، لا يعود اختيار رفاقه في الحركة الإسلامية الأردنية قائدا أول لهم، في التسعينيات، إلى مقادير الاعتدال الوفيرة في شخصه، ومقبوليته لدى النظام، وإنما أيضا إلى الحنكة في أدائه، وإلى فهمه الخاص لقيم الإصلاح والتغيير، ودائما من منظور خدمة المجتمع. وهو رجلٌ، في الأساس، يعتنق قيم العلم والمعرفة والتعليم، وتربوي مخضرم، وأستاذ الأجيال عن حق. ومن المهم أن يُعرف عنه أنه أحد مؤلفي كتب الكيمياء (والفيزياء) المدرسية للمرحلة الثانوية الأردنية في زمن غير بعيد. وإلى شهادتيه، الماجستير والدكتوراه في التربية من جامعة كولومبيا في نيويورك، فإنه خرّيج الجامعة الأميركية في بيروت، في البكالوريوس والماجستير في الكيمياء. وفي الوُسع أن يُرى تأهيله العلمي المبكر هذا، والذي يوازي بين المعرفة العلمية المخبرية وتهذيب الإنسان، تفسيرا لنشاط الرجل، غير المحدود، في الإنتاجين، الفكري، من مرجعيات إسلامية محافظة مع انفتاح ملحوظ على العالم، والعلمي المحض (نقل كتبا علمية إلى العربية، وأشرف على عدة ترجمات، وله كتب في الكيمياء تم تدريسها في الجامعات)، فله نحو خمسة عشر كتابا في التفكير الإسلامي والقضية الفلسطينية والاجتماع، وكتبٌ أخرى في التربية وتخطيط المناهج وتعريب العلوم.
ولذلك، تتعدّد الدروس التي يمكن استيحاؤها من سيرةٍ حافلةٍ بهذا كله (وغيره كثير)، حافظ فيها إسحق الفرحان، العالم والمثقف الرفيع، على أناقته السياسية والفكرية، وهي دروسٌ في الحياة وفي السياسة وفي تهذيب النفس واحترام العقل.