من دروس المأساة السورية
يعيد سقوط نظام بشار الأسد في سورية إلى الواجهة مأزق النظام السياسي العربي ومسؤوليته التاريخية عن تفكّك الدولة والمجتمع وانفراط عقدهما. لقد كشفت الحرب الأهلية هشاشة الدولة السورية وضعف النظام الذي كان يُعدّ أحد أعتى الأنظمة العربية وأكثرها استبدادا وقمعا؛ فلم تحُل بنيته الأمنية والعسكرتارية وتحالفاتُه الإقليمية والدولية دون سقوطه، بعد أن أضحى واجهة مكشوفة لتحكم الطائفة والعائلة في المقدرات الوطنية.
يكاد ينطبق ذلك على النظام السياسي العربي على امتداد الجغرافيا العربية المنكوبة؛ كان أبرز تحدٍّ واجهه هذا النظام خلال النصف الثاني من القرن المنصرم كسب رهانات الإصلاح والتنمية والتحديث. وهو ما كان يعني وضع مقدّرات الدولة ومواردها في خدمة هذه الأهداف بشكلٍ تعود عائداته بالفائدة على المجتمع. كان هذا النظام، بمختلف تشكيلاته العسكرتارية والسلطوية والدينية، يدرك أن جعل الدولة في خدمة المجتمع ستترتب عليه تكاليف سياسية لم يكن مستعدا لدفعها. كان الانخراط في مشاريع إصلاحية كبرى يقتضي تحوّلا عميقا في التركيبة المجتمعية، بما يعنيه ذلك من إعادة النظر في توزيع الثروة والسلطة وتوسيع هوامش الإصلاح ولو ضمن الحدود الدنيا. صحيحٌ أن هذا النظام نجح في إقامة بنيات إدارية ومؤسّسية تدمج بعض موارد الحداثة السياسية الشكلية، لكن ذلك لم يكن ضمن رؤية إصلاحية شاملة، بسبب مخاوفه من إعادة صياغة معادلة الصراع الاجتماعي بشكلٍ يُفضي إلى فقدانه السلطة. لذلك كان الاستقواء بالطائفة والعشيرة والعائلة الرقم الصعب في الهيمنة على مؤسسات الدولة وتسخيرها لخدمة مصالحه، لا سيما بعدما أقام أحزمة تحالف مع القوى الاجتماعية المصطفة حوله، وهو ما فاقم أزمة الشرعية لديه، وغذى أكثر الانقسامات الإيديولوجية والمذهبية والقبلية والعرقية.
إضافة إلى ذلك، شكلت قضيتا فلسطين والوحدة العربية عصب الشرعية لدى بعض تشكيلات هذا النظام (سورية، العراق، ليبيا). وفي وقتٍ كان يُأمل فيه أن تلعب هذه التشكيلات أدواراً طلائعية في تعزيز التضامن العربي، والحفاظ على ما تبقى من حقوق الشعب الفلسطيني، فتحت أبواب الجحيم أمام شعوبها بارتكابها أخطاء استراتيجية قاتلة (الغزو العراقي للكويت مثلاً)، وزرع بذور التفرقة بترك المكونات العائلية والعشائرية والطائفية التي تنتمي إليها تهيمن على المقدّرات الوطنية وتعيث في الأرض فساداً. وتقدّم الحالة السورية أكثر الأمثلة دلالة في هذا الصدد؛ فقد انتهى المطاف بنظام ''حزب البعث العربي الاشتراكي'' (الوحدوي) في سورية إلى نظام عائلي/ طائفي قاد البلاد إلى التفكّك والفوضى والاحتراب الطائفي المدمر. لقد حوّل الدولة السورية إلى ''دولة فاشلة'' بعدما سقطت شرعيته بإقحام جيشها (العربي السوري!) في الصراع الاجتماعي والأهلي، وفقد السيادة على مساحات واسعة من أراضيها، وأضحى قراره السياسي رهين حسابات حلفائه من القوى المحلية والإقليمية والدولية.
أكبر درس تقدّمه المأساة السورية أن الأوان قد آن لفك الارتباط بين النظام والدولة العربييْن؛ لقد سقط نظام الأسد أخلاقيا حين ساوم الشعب السوري على كيانيته الوطنية والمجتمعية، حين رفع مؤيدوه من الشبّيحة شعار ''الأسد أو نحرق البلد'' في ابتزاز طائفي رخيص، كشف السقوط الأخلاقي والسياسي لواحد من أكثر الأنظمة استبداداً وفساداً في المنطقة خلال العقود الخمسة الأخيرة. إن مساومته السوريين على مقدرات الدولة والمجتمع مقابل بقائه في السلطة كشف طبيعته الطائفية والعائلية التي تتناقض مع مقتضيات التعاقد الاجتماعي، الذي يُفترض أن يؤطر علاقة الدولة والمجتمع في مطالع القرن الحادي والعشرين.
على السلطة الجديدة في دمشق استخلاص العبر والدروس من المأساة السورية، بتجنب الخيارات السلطوية التي قد تنعطف بها إلى اجتراح نسخة أكثر سوءا من نسخة حكم الأسد. وهو ما لا يستقيم، من دون إعادة هيكلة مؤسسات الدولة على أساس الولاء للوطن، وليس الولاء للنظام الذي لا يعني في الواقع، غير الولاء للطائفة، وفي مقدّمة هذه المؤسّسات الجيش الذي تضرّرت صورته الوطنية بعدما حوله نظام الأسد إلى جماعات ومليشيات طائفية لقتل السوريين والتنكيل بهم.