من مدينتي إلى جنين: عواء الجرّافة
جرّافة الصهيوني اقتحمت جنين، فاقتلعت بيوتًا من أساسها، وهجّرت أصحابها، فراحوا يهيمون بالشوارع والطرقات بحثًا عن موطن جديد داخل الوطن المسروق، فيما كان النظام الرسمي العربي منهمكًا في صناعة قصاصاتٍ من الورق، يعبئها بالكلام الماسخ الممسوخ والمنسوخ من الأرشيف، ويطلق عليه بيانات إدانة واستنكار.
لا قيمة لهذه البيانات والأوراق، فهي لا تصلح مثلًا لصناعة طائراتٍ ورقيةٍ يلهو بها الصغار في أثناء رحلة البحث عن مأوى وبيت، بعد أن أخرجهم الجنود الصهاينة رفقة ذويهم من بيوتهم، وألقي بهم في الدروب الضيقة وأمطرهم قصفًا عنيفًا: لا يملك الأطفال رفاهية اللهو بالطائرات الورقية، حين تكون طائرات العدو محلّقة في الجو تقصفهم وتقصف مستشفياتهم ومدارسهم بالذخيرة الحية.
أنهى النظام العربي تعبئة بياناته، وأطلقها تطير فوق شاشات التلفزة، ورقد مطمئنًا إلى أنه أدّى ما عليه في هذه المناسبات الفاجعة، فيما كان الصغار يواصلون التخبّط في الطرقات، بحثًا عن مهربٍ من الموت الذي يلاحقهم برًا وجوًا.
بالتزامن مع عربدة جرافة المحتل الصهيوني فوق أجساد المقاومين في الشوارع وتحت جدران الآمنين العزّل في البيوت، كانت سيارة الضابط الصغير المنتفخ صلفًا وغطرسة تتقمّص دور الجرّافة في منتصف المسافة بين القاهرة والسويس (مدينة المقاومة والصمود) هناك في منطقة مملوكة لقاتل عتيق اسمها "مدينتي".
منح الضابط سيارته مرتبة الجرافة، وانطلق بها يدهس أجساد أطفالٍ صغار وأمهم وأبيهم، فيقتل الأم ويترك صغارها جرحى وزوجها في حالة ذهول من تلك النهاية المزلزلة لعائلة مصرية صغيرة عادت من الغربة إلى حضن الوطن لقضاء إجازتها بين الأهل والأصدقاء.
غطرسة الضابط المفتون بسلطته وجبروته لا تقلّ عن غطرسة المحتلّ المسكون بيقين أن لا أحد هناك من الذين يدّعون أنهم أشقاء الضحايا يمكن أن يتصدّى له، وأن أقصى ما يمكن عنهم من ردّات فعل لا يتجاوز المنافسة على لقب "أفضل بيان إدانة".
كيف يمكن للمحتلّ أن يشغل نفسه بأن رد فعل عربيًا رادعًا من هذه العاصمة أو تلك يمكن أن يأتي وهو في اللحظة التي يبدأ فيها إعادة احتلال الضفة الغربية الفلسطينية، يمنح مستشار العاهل المغربي الذي يسمّي نفسه أمير المؤمنين المدافع عن القدس، يمنحه أعلى وسام إسرائيلي عن فئة الأفراد "الذين قدّموا مساهمة فريدة للشعب اليهودي" إذ يقول البيان الصادر عن رئيس الكيان الصهيوني إنه" قدّم مساهمة غير عادية للعالم اليهودي ويهود المغرب ودولة إسرائيل في تنمية العلاقات مع المغرب والحفاظ عليها على مر السنين، وتقديم الدعم والمشورة للقادة الإسرائيليين في سعيهم من أجل السلام في الشرق الأوسط".
كيف يمكن أن يخاف الصهيوني وسبع دول عربية تشتري سلاحها منه، وأكبرها تبيعه الغاز الطبيعي وتستورد منه غاز فلسطين المسروق وتتباهى بوظيفة "سمسار التهدئة المحايد" بينه وبين الشقيق الفلسطيني؟ كيف له أن يقيم وزنًا لبيانات إدانةٍ من دول تتعاون معه عسكريًا تحت المظلّة الأميركية، وتعتبر أية تظاهرة شعبية متضامنة مع الشعب الفلسطيني جريمةً تعاقب مرتكبيها بالسجن؟
قد يحسب الصهيوني حسابًا للعرب إذا استطاعوا يومًا أن يستدعوا سفيرًا لهم من عنده أو يطلبوا من سفير له المغادرة، أو يوقفوا استيراد الغاز والكهرباء والغذاء منه، أو ينسحبوا من "منتدى النقب" الذي يديره الأميركي المنحاز للاحتلال ويسوق بعصاه عدة دول عربية لحضوره.
أما وأن شيئًا من ذلك كله لن يحدُث، فلابد من أن نكرّر أن من المهم أن يدرك المقاوم الفلسطيني أن أشقاءه الحقيقيين هم الحجر والبندقية والصاروخ محلي الصنع وأبطال العمليات الفدائية الفردية والرواية الحقيقية، وما دون ذلك هم والعدم سواء .. بل هم والعدو شركاء.