من مصر للسودان.. وهم الثورة المضادة
ممارسات جنرالات الدم في السودان، وقبل ذلك في مصر، تستدعي وضع مصطلح "الثورة المضادة" على مائدة المراجعة والتدقيق من المتخصصين في الاجتماع السياسي، وخصوصًا في المنطقة العربية، ذلك أن ما جرى في مصر 2013 وما يدور في السودان 2019، هو شيء ينتمي إلى مفهوم الانقلابات العسكرية الصريحة، أكثر بكثير مما ينتمي إلى "الثورات المضادة" التي تبدو لي، في أحيان كثيرة، وهمًا صنعه الطغاة لإسباغ شرعية شعبية، زائفة، على حربهم ضد ثورات التغيير الديمقراطي التي ترنو إلى الحكم المدني، بديلًا كاملًا للأنظمة العسكرية الشمولية التي تدور في فلك القوى الخارجية، الإقليمية والدولية، أكثر مما تنتمي إلى الأوطان التي تستقوي عليها بالسلاح والدعم الأجنبي.
أكثر من سبع سنوات على حرب العسكر ضد ثورات التغيير في مصر وليبيا، والآن في السودان، تبين لنا أن "الثورة المضادة" ليست سوى تسميةٍ ناعمةٍ لتدليل جرائم الاستبداد العسكري حين يشرع في ذبح الثورات الشعبية، على نحو لا يبتعد كثيرًا عن محاولة الاستعمار الصهيوني إطلاق مصطلح "جيش الدفاع" على عصابات الاحتلال وجيوشه التي أغارت على أهل البلاد الأصليين، فهدمت المساكن وقتلت ساكنيها، واقتلعت الشجر والبشر، وغيّرت معالم الجغرافيا والتاريخ.. ثم بعد أن فرضت هيمنتها على البلاد والعباد، راحت تسمّي كل مقاومة لها إرهابًا، وكل محاولة لاستعادة الحق عدوانًا.
في الحالة السودانية، لا يمكن الحديث عما يجري ضد ثورة الشعب السوداني الآن باعتباره ثورة مضادّة، ذلك أن المسألة تشرح نفسها، حد الابتذال، معلنًة أن قادة القوات المسلحة يخوضون حربًا شاملة ضد شعبٍ ثار وانتفض، ساعيًا إلى تغييرٍ شاملٍ، يحكم فيه نفسه بنفسه، كما تقول ألف باء الديمقراطية، فضلًا عن أن هذه الحرب تدور بتكليفٍ، ولمصلحة قوى إقليمية تعادي الثورات الشعبية، وتحشد ضدها كل أسلحة الحرب الإجرامية.
وإذا كان مفهوم الثورات أنها هبّاتٌ شعبيةٌ تلقائية وعفوية، تنطلق وتتسع وتتمدّد، حتى تصير مظلةً تجتمع تحتها أحلام الكتلة الأكبر من الشعب، في مواجهة السلطة المستبدة، فإن الثورة المضادة كذلك، يفترض، بالبداهة والمنطق، أن تكون حركة شعبية، غير راضيةٍ عن مسار هذا التغيير، تتحرّك عفويًا وتلقائيًا من دون تكليفٍ أو لمصلحة جهةٍ ما في الداخل أو في الخارج، والذي وقع في السودان من مذابح للثوار ليلة العيد لم يكن فعل ثورةٍ مضادة، وإنما كان جريمة نظام عسكري، كاملة الأركان، ضد متظاهرين يعتصمون سلميًا.
ولو عدت سنوات إلى الوراء، في عمق الحالة المصرية، لن تحتاج إلى مجهودٍ كبير، لكي تدرك أن الثورة المضادة هي اختراع حصري للمجلس العسكري، لكي يبدأ حربه على ثورة الشعب الحقيقية، وقد دوّنت ذلك في 2011 من واقع ما نشرته مجلة حكومية (روز اليوسف) عن استقبال المجلس العسكري لمجموعات من النظام الذي أسقطته الثورة، ووعده لهم بالدعم، حال انتشارهم في القرى والأحياء الشعبية وحشد الناس ضد الثورة، وتبلور ذلك أكثر عقب مجزرة ملعب بورسعيد لكرة القدم، حين أطلق رئيس المجلس العسكري، المشير حسين طنطاوي، قولته الشهيرة "هو الشعب ساكت عليهم ليه"، استدعاءً وتأسيسًا لجيش "المواطنين الشرفاء" الذي ثبت لاحقًا أنه أحد أفرع المؤسسة العسكرية/ الأمنية الحاكمة.
وفي صيف العام 2013، حين قرّر العسكريون تنفيذ انقلابهم، وتوجيه ما اعتبروه الضربة الساحقة للثورة، كان الحرص على اتخاذ شعار "الثورة المضادة" غطاءً لتحرّك العسكريين في اتجاه إعادة الاحتلال وفرض الهيمنة المطلقة على الحياة السياسية في مصر، لكنهم كانوا بحاجةٍ في المرحلة الأولى إلى طلاء مدني يدهنون بها واجهة مشروعهم، تمثل في مجموعة من الوجوه السياسية، المنتسبة لثورة يناير، سرعان ما تم التخلص منهم، تباعًا، بعد الوصول إلى الهدف.
وليس أكثر وضوحًا في التعبير عن ذلك، من قائد الانقلاب، عبد الفتاح السيسي، شخصيًا، حين كشف في حوار تلفزيوني مبكر (2016) أن إسقاط حكم الرئيس المدني، محمد مرسي، كان مشروعًا حصريًا للمؤسسة العسكرية، وأقر بأن ما جرى في الثلاثين من يونيو/ حزيران 2013 قد تم التخطيط له قبل هذا التاريخ بفترة طويلة.
دقّق النظر في الحالتين المصرية والسودانية، ستدرك أننا في حاجةٍ فعليةٍ للتخلص من وهم "الثورة المضادة" الذي يغلف به الطغاة جرائمهم، ويشركون شعوبهم، عنوًة وإجبارًا، في ولائم الدم.