من يتحدّث باسم الفلسطينيين ومن ينفّذ اتفاقاً؟
قد يبدو سؤالٌ عمّن يتحدّث باسم الفلسطينيين غريباً في ظاهره، فقد تكون لدى منظّمة التحرير الفلسطينية ورئيس لجنتها التنفيذية محمود عبّاس الإجابة الواضحة، فعبّاس الذي انتُخِب رئيساً للسلطة الفلسطينية في عام 2005 يتولّى رئاسة الأجهزة العسكرية والاستخبارية التابعة للسلطة الفلسطينية. وبصفته هذه، يعيّن أيضاً رؤساء الوزراء والقضاة والمحافظين في السلطة الفلسطينية، وبصفته رئيساً للمنظّمة، يعيّن سفراء دولة فلسطين، بمن فيهم سفير فلسطين لدى الأمم المتحدة.
ولكن بعد مرور عام على حرب الإبادة في غزّة، وتغلّل المستوطنين المسلّحين في الضفة، يعدّ غياب وحدة وطنية تمثّل الفصائل الفلسطينية العاملة والمناضلة، وصمةَ عارٍ على الشعب الفلسطيني، وقيادات الشعب، ابتداء من الرئيس إلى رؤساء الفصائل كافّة، يتحمّلون مسؤولية غياب الوحدة الوطنية المنشودة، التي يطالب بها الجميع. وبعيداً عن الضريبة اللفظية للوحدة، فإنّ الانقسام الفلسطيني مستمرّ والتفرّد في القرار الفلسطيني متمركز في مقرّ الرئاسة في رام الله. ومن هنا، من يتحمّل المسؤولية والتسمية عليه أن يتحمّل الانتقاد، وإن لم يكن قادراً على حمل المسؤولية وتقبّل النقد، فمن الضروري أن يوفّر فرصةً للآخرين ليقوموا بذلك. وفي هذا المقام، من الواضح أن قدرة الرئيس عبّاس في حماية المصالح الفلسطينية أصبحت منذ فترة طويلة سلبيةً، ومضرّةً بالمصلحة الوطنية العليا، كما أصبح الدفاع عن الرئيس والرئاسة الفلسطينية، حتى من المؤيدين للحركة الوطنية، صعباً للغاية. ساهم غياب عبّاس عن الساحة خلال حرب الإبادة في غزّة في تراجع شعبيته، وهو ما يرتبط إلى حدّ كبير بأنه في رأس السلطة مدّة تقارب عقدَين من الزمان، من دون إجراء انتخابات. خلال هذه الفترة لم تتحسّن حياة الفلسطينيين، فسيطرت "حماس" على غزّة منذ عام 2007، عندما أطاحت السلطة الفلسطينية في أعقاب فوزها في الانتخابات الفلسطينية عام 2006، وقد فشلت (أو أُفشِلت) المحاولات لأنهاء الانقسام، بما ذلك شلّال الدم الفلسطيني، بين حركتي حماس وفتح.
أدّى هجوم "حماس" في 7 أكتوبر، والحرب التي على غزّة، إلى تسريع قضية خلافة عبّاس، واكتسب ذلك زخماً منذ مقتل السنوار
أدى تدّني شعبية عبّاس والقيادة الفلسطينية على نطاق واسع إلى ظهور عديد من القوى والأفراد المعارضين، لكن من استطاع منهم أن يحقّق اختراقاً للركود السياسي، يصعّب على الآخرين الانضمام إلى المعركة السياسية، وتحقيق انتصار، والوصول إلى صنع القرار. وباعتبارها المنافس الأقوى لمنظمّة التحرير الفلسطينية وعبّاس، تقف حركة حماس في قمّة المعارضين. ولكن هجومها على إسرائيل في 7 أكتوبر (2023) قلّص بشدّة من أي احتمال لتمثيلها فلسطين في المحافل الإقليمية أو الدولية. وفي سبتمبر/أيلول الماضي، أظهر استطلاع للرأي أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية أن شعبية "حماس" بلغت 37% في الضفة الغربية و35% في غزّة، في حين تحظى حركة فتح بشعبية مماثلة مع الاختلاف الكبير، في حين توضع أسماء مغايرة في قمّة حركة فتح من سجناء أو مبعدين عن ساحة صنع القرار في اللجنة المركزية للحركة، التي يتحكّم بها الرئيس عبّاس وأقرب معاونيه.
إذاً من أين تأتي المنافسة لعبّاس؟... أولاً وقبل كلّ شيء، من داخل حركة فتح التي يتزعّمها، فهناك جيل آخر من الزعماء (بمن فيهم من في السجون مثل مروان البرغوثي) ينتظرون رحيل عبّاس. وإذا أُطلق سراح البرغوثي المحبوب شعبياً في صفقة مع إسرائيل، فقد يعجل ذلك خروج عبّاس، تحت الضغط الداخلي في حركته، وفي الشارع الفلسطيني. وتشير التقارير إلى أن البرغوثي، الذي أبعدته وسجنته إسرائيل أكثر من عقدَين بسبب دوره القيادي في الانتفاضتين الأولى والثانية، يحتّل المرتبة الثانية في قائمة أولويات الأسرى الفلسطينيين، التي تصرّ عليها حركة حماس في حال انجاز عملية تبادل محتملة. ويتصدّر القائمة أحمد سعدات من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وتأتي تلك المعلومة بلسان مصادرَ مطّلعة على معايير إطلاق سراح السجناء الفلسطينيين، إذ اتفق على منح الأولوية في عمليات التبادل لمن هم أكبر سنّاً، ولهم في المعتقلات الإسرائيلية أطول فترات اعتقال. إضافة إلى مروان البرغوثي ينتظر أيضاً مرشّحون كانوا ينتمون سابقاً إلى حركة فتح، وأبرز شخصين في هذا السياق وزير الخارجية السابق ناصر القدوة، ومحمّد دحلان الذي أسّس ما سمّاها حركةً إصلاحيةً داخل حركة فتح، وهي التيّار الإصلاحي الديمقراطي، في عام 2007، ولها مؤيّدون في غزّة والضفة الغربية.
التحدي الآخر الذي يواجه عباس هو المؤتمر الوطني الفلسطيني، وقد انضم إلى فكرته فلسطينيون من 46 دولة
يحظى القدوة بدعم دولي أكثر من دحلان، لكن تأييده شعبياً أقلّ. القدوة قريب الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، وعضو سابق في اللجنة المركزية لحركة فتح، عُزل من "فتح" في عام 2021، لتجرُّئه على التفكير في الترشّح إلى جانب البرغوثي وزوجته المحامية فدوى، في الانتخابات الفلسطينية التي ألغيت في النهاية. اكتسب شهرةً دبلوماسية بعد صياغة اقتراح سلام في وقت سابق من هذا العام لحلّ الصراع الإسرائيلي الفلسطيني مع رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت. ودعي وأولمرت للقاء كبار المسؤولين في بروكسل ومدريد وروما وواشنطن لمناقشة الاقتراح. التقى كلاهما البابا فرانسيس الأسبوع الماضي، ومن المقرّر أن يلتقيا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. ويصرّ دحلان على أنه لا يرغب في منافسة عباس، ويقترح نائبه سمير مشهراوي لذلك، يعمل في هدوء لبناء قاعدة قوية في الضفة الغربية وقطاع غزّة من خلال دعم مشاريع إنسانية، والعمل الإعلامي من خلال محطّة تلفزيونية وموقع إلكتروني مقرهما مصر.
التحدي الآخر الذي يواجه عباس هو المؤتمر الوطني الفلسطيني، الذي انطلق نداء إلى عقده في فبراير/شباط 2024، ومن المتوقع أن يُعقد في الدوحة في يناير/كانون الثاني 2025، وقد انضم إلى فكرته فلسطينيون من 46 دولة، ومنهم مجموعات تدعم المناضل مروان البرغوثي، ما قد يشكّل ثغرة كبيرة في حركة فتح برئاسة الرئيس عبّاس.
أدّى هجوم "حماس" في 7 أكتوبر، والحرب التي تلت ذلك في غزّة، إلى تسريع قضية خلافة عبّاس، الأمر الذي اكتسب زخماً جديداً منذ مقتل يحيى السنوار. لم يفشل عباس وحكومته في حشد الدعم الدولي الفعّال لإنهاء الحرب في غزّة فحسب، بل فشل أيضاً في حشد الدعم من الزعماء العرب والإسلاميين، ممّا سرّع النقاش حول من يتحدّث باسم الشعب الفلسطيني، ومن يستطيع أن ينفّذ أيّ اتفاق يتم التوصل إليه لحلّ القضية الفلسطينية.