من يحمي الديمقراطية في تونس؟
مهما اختلف توصيف ما جرى في تونس يوم 25 الشهر الماضي (يوليو/ تموز) بين ما يقول عنه المؤيدون إنه تصحيح مسار، وتأكيد المعارضين له أنه محاولة انقلاب على المسار الديمقراطي برمّته، فالأكيد أن الوضع الحالي يشوبه الغموض والترقب، في ظل عدم وضوح الخطوات التالية التي يعتزم القيام بها رئيس الجمهورية، باعتباره المستأثر حاليا بكل الصلاحيات، ويجمع بين يديه كل السلطات.
ربما كان ما حصل نتاجا لحالة الانغلاق السياسي التي شهدتها البلاد منذ انتخابات 2019، وحالة العجز عن تصريف الأزمات المتراكمة بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية، بالإضافة إلى التأثيرات بالغة السوء للجائحة الوبائية، وهو ما دفع قسما من الشعب إلى حالة من التململ وتأييد تجميد الحياة السياسية وإيقاف السير الاعتيادي لمؤسسات الدولة. غير أن هذا وحده لا يكفي لتفسير الحدث في ذاته، فقد كان واضحا وجود حالة من عدم الثقة بين مراكز السلطة في البلاد، وهو ما أفضى إلى تهديد النظام الديمقراطي واحتمال العودة إلى السلطوية.
لم يكن هناك عمل جدّي لتعزيز الديمقراطية وحمايتها من مخاطر الرّدة عليها
ربما كان من نقائص الديمقراطية التونسية غياب ديمقراطيين فعليين يدفعون إلى تعزيزها، وإرساء مؤسساتها التي يمكنها أن تستمر من خلالها. ويتجلى هذا في جانبين: أولهما الإطار الإجرائي المؤسسي، ونعني به تحديدا استكمال بناء المؤسسات الضرورية، وفي مقدمتها المحكمة الدستورية، وقد مرّت السنوات الخمس ما بين 2014 و2019 في مناكفاتٍ سياسيةٍ، وفي صراعات الكتل الحزبية، من دون إصرار جدّي على استكمال هذه الخطوة التي اكتشف الجميع لاحقا أهميتها، بوصفها ضلعا مركزيا لاستمرار أي نظام ديمقراطي. والجانب الثاني هو أداء النظام الديمقراطي ومخرجاته، لأنه إذا كان هدف الديمقراطية صون حقوق الإنسان وحريته وكرامته وتحقيق المساواة في فرص الحياة بين الجميع، فإن هذا الأمر لا يتحقق فقط بإقامة المؤسسات والإجراءات، ولكن أيضا من خلال أداء السلطة وجهدها في تحقيق الأدنى من حل المشكلات الاجتماعية والاقتصادية. وهذا مؤدّاه أن الديمقراطية، وإن كانت تقتضي جانبا إجرائيا مؤسسيا يتعلق بتكوين الأحزاب وتنظيم الانتخابات والفصل بين السلطات، فإن تعزيز أركان الديمقراطية تركز على الجانب الاجتماعي، المرتبط بالتأثير الإيجابي للنظام الديمقراطي على حياة الأفراد.
تجميع السلطات بيدي رئيس الجمهورية لا يعني قدرته على حل المشكلات بعصا سحرية
وإذا كان من غير الممكن انتظار معجزة اقتصادية من نظام ناشئ، وريث سنوات طويلة من الإخفاق، فإنه لا يمكن إنكار أنه طوال السنوات العشر لم يكن هناك عمل جدّي لتعزيز الديمقراطية وحمايتها من مخاطر الرّدة عليها. بل على النقيض من ذلك، نلاحظ حالة من الأداء الكارثي لأحزاب البرلمان التونسي، والتي تصرّف بعضها عن سوء نيةٍ، فيما تصرّف آخرون انطلاقا من المصلحة الذاتية المفرطة. وهنا يمكن الإشارة إلى السلوك الممنهج الذي اعتمدته عبير موسي، من الحزب الدستوري الحر، بين أروقة البرلمان، في أساليب إثارة الفوضى والتهريج، بشكل أثار نقمة الجمهور الذي يتابع الأحداث. وإذا أضفنا هذا الميل المعلن لدى نواب حركة الشعب إلى إلغاء المسار الديمقراطي، وهو ما انكشف من خلال تأييدها المطلق الإجراءات الرئاسية أخيرا، ندرك حجم الضغوط التي كانت مسلّطة على المسار الديمقراطي التونسي. في المقابل، تصرّفت قوى سياسية أخرى بنوع من البحث عن المصلحة الحزبية المفرطة أكثر من الرغبة في ترسيخ المسار. فحينما كانت التعبئة على أشدّها ضد البرلمان والعملية السياسية برمتها، خرج رئيس مجلس شورى حركة النهضة، عبد الكريم الهاروني، ليتحدّث عن تعويضات ضحايا الاستبداد السابقين، وكأنه يحمل البنزين لإشعال الحريق. وفي وضع متردٍّ وبرلمان عاجز وتحريض إعلامي وقوى إقليمية منزعجة من استمرار النموذج التونسي، كان من السهل استغلال أي تصريحاتٍ من هذا القبيل، لمزيد التحشيد أو على الأقل التعبئة النفسية ضد الديمقراطية، على الرغم من أن التفكير المنطقي يقول إن الديمقراطية ليست مسؤولة عن سلوك الأحزاب أو التنظيمات، بقدر ما هي آلية لتنظيم الحياة السياسية وتجنب الانزلاق نحو الحكم السلطوي أو الفوضى المجتمعية.
المشكلة الحالية التي تواجهها تونس لا تكمن فحسب في استمرار تعطل المؤسسات، وإنما أيضا في غياب تصور واضح للأيام المقبلة، فلا يمكن للوضع أن يستمر على ما هو عليه. وفي الوقت نفسه، ينبغي مراجعة قواعد الممارسة السياسية، فلم يكن ضروريا تعطيل أجهزة الدولة وتجميد البرلمان لحل الأزمة، فقد كان من الممكن السير نحو حوار وطني واسع وشامل، تتم فيه مناقشة كل المشكلات من أجل الوصول إلى حل يعيد البلاد إلى مسارها السليم. ويدرك الجميع أن لا أحد يملك حلولا جاهزة للخروج من الأزمة، وأن تجميع السلطات بيدي رئيس الجمهورية لا يعني قدرته على حل المشكلات بعصا سحرية، كما يعتقد مؤيدوه، وإنما قد يكون مدخلا إلى نظام سلطوي مجهول العواقب.