من يشتري الديلي تلغراف؟
ليس الخبر هذه المرّة عن إفلاس صحيفةٍ شهيرة، أو اكتفائها بأن تصير موقعاً إلكترونياً وحسب، أو توقّفها عن الصدور لأسبابٍ ماليةٍ، وإنما هو عرض صحيفة الديلي تلغراف البريطانية العريقة (صدرت في العام 1855) للبيع (مع مجلّة أسبوعية، وصحيفة الصنداي تلغراف التي تصدُر أسبوعياً منذ 1961)، بسبب طلب مجموعة لويدز المصرفية فرض حراسةٍ قضائيةٍ على الشركة المالكة للصحيفة العتيدة، محاولةً لتحصيل ديْنٍ مستحقّ بقيمة مليار جنيه إسترليني. والأهمية الخاصة للخبر أن أرباح "الديلي تلغراف" في العام الماضي (2022) ارتفعت إلى نحو 30 مليون جنيه، بعد أن كانت 22 مليوناً في العام السابق، من مبيعاتها المتزايدة والمشتركين الجُدد في موقعها الإلكتروني الجذّاب. وهي الصحيفة الأولى في بريطانيا التي أطلقت موقعاً إلكترونياً لها في 1994. وإذا كانت تشتهر بأنها التي نشرت في أغسطس/ آب 1939 أول أخبار بدء الحرب العالمية الثانية، وأول صحيفةٍ بريطانيةٍ تنشر "كلمات متقاطعة"، فإن شهرتها الأعرض من هذا وذاك (وغيرهما مما سبقت فيه غيرَها في غير شأن) أنها صحيفة النخبة السياسية البريطانية من اليمين المحافظ، وتكاد تكون محسوبةً صوتَ حزب المحافظين. ولعلّ هذا الاعتبار، فائق الأهمية، مضافاً إليه نجاح الصحيفة مالياً ومهنيّاً، سيحولان دون بيعها إلى أطرافٍ تُعاكس خطّها التقليدي الذي واظبت عليه عقوداً. والأخبار الشحيحة التي تتسرّب، أو تشيع على الأصحّ، ترجّح أن تشتري الصحيفة جهاتٌ تحمي صلة الصحيفة وارتباطاتها بالمؤسّسة السياسية البريطانية. وفيما يجري تداول أسماء شركاتٍ بريطانيةٍ (ديلي ميرور مثلاً) ومجموعاتٍ غير بريطانية، ورجال أعمالٍ غير منخرطين في صناعات الصحافة والميديا، وجهاتٍ خليجية، وأثرياء من هنا وهناك، فإنّ التوقّعات تذهب إلى بقاء الصحيفة الشهيرة في المدار الإعلامي والسياسي الذي أقامت فيه. ولمّا كانت القضية في أساسها دَيْناً كبيراً على الشركة المالكة، فإنّ أخباراً تفيد بأنّ المالكين (عائلة باركلي) يعملون على جمع المبلغ المستحقّ، لتظلّ صحيفتهم في حوزتهم، الأمر الذي لا ترفضه مجموعة لويدز الدائنة، فهي تريد العنب وليس مقاتلة الناطور.
وفي الوُسع أن ينظُر ناظرٌ في قصّة "ديلي تلغراف" هذه، نجاحٌ مهني ومالي وتموقُع سياسي، من غير وجهٍ، فالتداخل بين قوىً ماليةٍ ومصالح إعلامية ورهانات طبقةٍ سياسيةٍ حاكمة (وربما متحكّمة؟) واحدٌ من أهم تفاصيل القصة. وإذ لا تزال الأخبار بشأن المصير الذي ستنتهي إليه الصحيفة، فإن المتوقّع على الأغلب أن تحمي لوبيّات اليمين البريطاني الصحيفة من الوقوع في أيدٍ غير مستحسنة، وأن ينشط العمل من أجل أن تبقى ذراعا له وواحدةً من تمثيلاته. ولقائلٍ أن يقول إن حساباتٍ ورهاناتٍ كهذه، موصولةً بخيارات الصحيفة طوال تاريخها، قد تمسّ مهنيّة الأداء الإعلامي نفسه، ووظيفة الصحافة التي تنهض على المصداقية والتحرّي عن الحقائق وعلى التعدّدية والتنوّع في بسط الآراء ووجهات النظر. وهذا صحيحٌ في واحدٍ من وجوهٍ مركّبة لحال الصحافة صناعة واستثمارا ومصالح في بريطانيا (والغرب عموماً؟)، غير أن هذا يحسُن أن يُقال باحتراسٍ وتحسّب كثيريْن من الزلل والشطط، سيما إذا سيق في صحافاتٍ وأوساطٍ إعلاميةٍ عربية، وعالمثالثية، من النوع الذي تنحدر فيه الحرّيات الإعلامية إلى مستوى شديد الضيق، ناهيك عن انتهاكٍ مشهودٍ لمواضعاتٍ مهنيّة معلومة.
يُؤتى على هذه الإشارة، وفي البال المذبحة التي عوينت في متابعة صحافاتٍ فرنسيةٍ وألمانيةٍ وبريطانيةٍ استضافة قطر كأس العالم 2022، لمّا تنازلت هذه عن بديهياتٍ أولى في نشر المعلومة الموثّقة، وأوْلت انحيازاتٍ عنصريةً وفوقيةً (واستشراقيةً كلاسيكيةً عتيقة) على هذا. والمؤدّى من هذه الإشارة هنا أننا، مع تسليمنا بأهمية مساحات الحرّية في الميديا الغربية، ومنها الديلي تلغراف، إلا أن لمؤثّراتٍ وتأثيراتٍ فعلَها المنظور الواضح .. والمستتر. والارتباط الشديد للصحيفة البريطانية قيد البيع المحتمَل بنخبةٍ نافذةٍ في بلدها، صاحبة اصطفافاتٍ تجعل شخصاً شعبوياً اسمُه بوريس جونسون (طُرد قبل أيام من موقعه نائبا، بعد أشهر من إزاحته عن رئاسة الحكومة) مرشّحاً لإدارة الصحيفة إذا ما أنقذها مالكوها من البيع، على ما يتردّد. والمذكور مطرودٌ من عملِه صحافياً متدرّباً في صحيفة التايمز (التحق بها في 1987)، بسبب اقتباسٍ كاذبٍ في تقرير كتبه، نسبه إلى مؤرّخ بريطاني.
هو السؤال هنا: من سيشتري "الديلي تلغراف"؟