من يصنع القرارات في لبنان؟
يبدو لبنان غارقاً في مأساة اقتصادية جرَّت أفراداً ضاقت بهم الأحوال المعيشية إلى التورّط في عمليات اقتحام مصارف، وتهديد موظفين للحصول على أموالهم الضائعة في البنوك، ولم يعرف عن هؤلاء المتورّطين سيرة أخلاقية مشينة. لكن يبدو أنّهم لجأوا إلى ذلك بعد أن أغلقت كلّ الأبواب في وجوههم. ويرافق الأزمة الاقتصادية الطاحنة شحٌّ في المواد الأولية والضرورية للحياة، كالوقود والكهرباء... يتهم اللبنانيون الطبقة الحاكمة والنظام السياسي بإيصال البلاد إلى هذا الدرك، بسبب سلوك التبعية لأنظمة إقليمية تمتلك نفوذاً قويّاً في الداخل، ما يجعل القرار معطّلاً ويعطّل معه أيّ استحقاق سياسي. فقد وقع لبنان وسط الفراغ، وخلت المناصب الرئيسية أكثر من مرّة خلال العقود الماضية، كمنصب رئيس الوزراء الذي شغر لعدم توافق الفئات السياسية المتناحرة، وكرسي الرئاسة الذي تعطّل للسبب ذاته... إرادة التعطيل يتوافق عليها الجميع، ويفضّلونها على أن يشغل المنصب الأول أو الثاني الفريق السياسي المناوئ. وفي ضوء هذا التهافت السياسي، نرى لبنان وقد مرّر اتفاقاً ذا طبيعة سياسية واقتصادية مع إسرائيل. وبدوره، خرج حسن نصر الله وهو يتحدّث عن الفرح والعنب، بعد أن كان حديثه مليئاً بالتحدّي والوعيد.
تعرض صفحات التاريخ لحدث لافت يعرَف باتفاق 17 أيار، وهو معاهدة سلام مصغّرة عقدت عام 1983 بين لبنان الرسمي، ممثلاً بالرئيس أمين الجميّل، وإسرائيل، اتفق فيها الطرفان على حدود بحرية وبرّية ومناطق أمنية وتمهيد لتطبيع تجاري وإنهاء لحالة العداء ومقدّمة لتطبيع كامل، وقد عرضت المعاهدة على مجلس النواب اللبناني، ووافق عليها 65 نائباً من أصل 72 حضروا الجلسة، بعد أن تغيّب 16 نائباً، سبعة منهم بسبب الموت، لكنّ حالة من الغضب سادت الشارع اللبناني، قادتها حركة أمل، وكانت تمثل التيار الشيعي الرئيسي آنذاك، وشكّل تحرّك الرفض هذا سبباً في تصدّر حركة أمل المشهد اللبناني من الجهة السورية. وحينها كان حزب الله لا يزال يبحث عن موطئ قدم على الساحة السياسية. استطاعت حركة أمل أن تقود تمرّداً في الشارع، أعطى زخماً جديداً للحرب الأهلية اللبنانية، وانقسمت بعدها العاصمة بيروت "رسمياً" إلى شرقية وغربية. واضطرّ المجلس نفسه الذي أيد الاتفاق إلى الاجتماع ثانية والتصويت على إلغائه، لكن لم ينفّذ منه أي بند، وبقي حبراً على ورق، حتى ألغي نهائياً.
ويذكر التاريخ اتفاقاً آخر وقّع بين لبنان وإسرائيل، ونفِّذ وما زال سارياً، حين وقّع ضابطان عسكريان لبنانيان اتفاق الهدنة مع إسرائيل في مارس/ آذار عام 1949. وهو نصّ قانوني يحدّد الحالة العسكرية للجانبين، ويمنع أيّ عملٍ عسكري بين الطرفين. ورغم أنّ النصّ حافل بعبارات فنية تحدّد التموضع العسكري لكلا الجانبين، فإنّه، بشكلٍ ما، يضمر إقرار حالة سلم دائم بين البلدين، من دون أن يتحدّث أي من الجانبين عن إقامة علاقات دبلوماسية أو تجارية. ويقتصر الاتفاق على الحرص على الموادعة العسكرية، والتخلّي عن حالة الحرب بينهما... ظلت الأمم المتحدة تحترم هذه الاتفاقية، وما زالت تعتبرها نصاً صالحاً لبناء حالة دائمة، رغم أنّ إسرائيل قد اخترقتها مرّات عدة في 1967 و1978 و1982 و1993 و1996 و2002 و2006 وغيرها. احترم الجيش اللبناني هذا القرار، أو لم يكن قادراً على تجاوزه، لكنّ مليشيات ومجموعات فدائية لبنانية، وغير لبنانية، اخترقته وعبرت عسكرياً إلى الجانب الآخر، لكن من الناحية الفنية يعتبر اتفاقية هدنة وقّعها ممثلون عن الحكومة اللبنانية...
واليوم، ينضم اتفاق الحدود البحرية الحالي إلى شقيقه اتفاق هدنة 1949، ليدخل معرض الاتفاقيات بين صاحب قرار في الدولة اللبنانية ظهر فجأة أو أفاق من غفوته، ليتجاوز كلّ مشكلات البلد الاقتصادية وفراغها السياسي، ويوافق سريعاً على اتفاقٍ بهذه الخطورة.