من يطلع النخلة؟
يخرج المحامي الشهير في بث مباشر، يلعن الإنتخابات النيابية، ويفضح ما في الكواليس من فساد ورشوة وبلطجة، ويهاجم النظام السياسي بعنف، محذّرًا من أن ما يجري في مصر هو أسوأ بكثير مما جرى في آخر انتخابات من زمن حسني مبارك.
في اليوم التالي، ينشر أحد المواقع السيسية مقالًا يحمل اسم المتحدّث العسكري السابق، والذي توغل في الحياة الحزبية والإعلامية بقوة، منذ إقالته، فيكرّر النغمة ذاتها: الإنتخابات النيابية القادمة مشوبة بالعوار والفساد والخلل، وإجراؤها بهذه الشروط والظروف يهدّد استقرار البلد.
صحيحٌ أن المقال الموقّع باسم المتحدّث العسكري تم حذفه من الموقع، لكنه لم يسحب من التداول، وبات حديث الدوائر السياسية والإعلامية، بعد أن تم نسخه وإعادة توزيعه.
نحن هنا بصدد رسالتين بعلم الوصول، من نظام السيسي وإليه، وكأن النظام يكلم نفسه بصوت مرتفع، لكي يُسمِع الناس، أو بالأحرى يدرّب الأذن على تلقي النبأ التالي، والذي أزعم إنه لن يتأخر كثيرًا.
السؤال والوضع كذلك: هل يتحمّل نظام السيسي، الواقف حافيًا فوق بحر من الرمال الساخنة، إقامة انتخاباتٍ نيابيةٍ بطول مصر وعرضها، بينما البلاد مشتعلة بالغضب؟ بصيغة أخرى: هل يبحث النظام الذي يعيش أسوأ أيامه عن مخرجٍ سريع من ورطة إجراء عمليةٍ انتخابيةٍ في هذه الظروف التي تحرق فيها صور جنرال المأساة، وتداس بأقدام أطفال في القرى والنجوع؟
قبل الإجابة على هذا السؤال الأساس، ثمّة أسئلة فرعية أخرى لابد من طرحها: إذا افترضنا أن المتحدّث العسكري المقال مهموم بكتابة المقال السياسي، أو أنه يكتب من عندياته، ومن بنات أفكاره، وهذا ليس صحيحًا تمامًا، هل يستطيع العسكري أن يمسك بيديه سلكًا عاريًا في لحظة مشحونة بكهرباء القلق والرعب، ويخوض في الشأن السياسي، ويتناول عمليةً يديرها ابن عبد الفتاح السيسي شخصيًا، من دون أن يكون مأمورًا بذلك، أو بالحد الأدنى استأذن قبل أن ينشر؟
أيضًا، هل يجرؤ موقع إعلامي يدار بريموت كونترول المخابرات أن ينشر أشياء من هذا النوع، بعض الوقت قبل أن يحذفها، من دون أن يكون قد تلقى"أوردر" عبر رسالة سامسونج؟
الشاهد أنه منذ العشرين من سبتمبر الفائت، فإن اثني عشر يومًا، ليست كسابقاتها من الأيام، أصابت نظام عبد الفتاح السيسي بصدمةٍ عنيفة، جعلت حركته السياسية والأمنية أشبه بمن به مسّ من الفزع، خصوصًا مع سقوط الرهان الرسمي على أن الدعوة إلى التظاهر ستفشل، أو أنها ستتبخّر مع الوقت.
تقترب التظاهرات من دخول أسبوعها الثاني، فتنعقد جمعة غضب، ثم تتلوها جمعة ثانية (اليوم) معلنة عن أن النظام يجد نفسه، للمرّة الأولى، محبوسًا في منطقة رد الفعل، حتى لو كان الفعل نفسه محدودًا ومتناثرًا في نقاط متباعدة، من دون أن ينتظم في تيار واحد يندفع هادرًا في اتجاه نقطة موحدة.
في هذه الأجواء التي يخسر فيها النظام يوميًا مساحاتٍ من السيطرة على الوعي العام، وتتكسر وعوده وأكاذيبه على صخور الغضب المتصاعد، من يوم إلى آخر، ومن جمعةٍ إلى أخرى، متنقلًا بين القرى والمدن، فإن إقدام السلطة على إجراء انتخاباتٍ برلمانيةٍ هو مغامرة محفوفة بالمخاطر الشديدة، في ظل تحطّم الأوثان الأمنية والسياسية في مناطق عدة، وخصوصًا مع الاستخدام المفرط للعنف، ما أدّى إلى دماء وشهداء، وهو الأمر الذي دفع الحكومة الألمانية إلى التنديد بسلوك النظام، ومطالبته بوقف العنف ضد المتظاهرين.
بإيجاز، يدرك النظام الآن أن عيون الخارج صارت مفتوحةً عليه، وأن الشعب في الداخل لم يتراجع بعد عن قراره بمحاولة صعود النخلة، غير مكترثٍ بلسع الدبابير الأمنية، وليس خائفًا من الإرتفاع، الأمر الذي يجعل من إجراء الانتخابات فرصةً للحشد الجماهيري، ويجعل من مقار اللجان ميادين للإلتقاء والهتاف .. أو هكذا أظن، والله أعلم.