مهابيل مجلس الشعب والرئاسة
تقام في سورية، كل أربع سنوات، انتخابات مجلس الشعب التي يسميها الإعلام البعثي "عرس الديمقراطية". وهي تسميةٌ ذات دلالتين متناقضتين: الأولى أنهم يعرفون أهمية الديمقراطية في حفظ حقوق الشعوب وحمايتها من غدر الزمان، ولذلك يغنون لها ويدبكون ويطلقون النار في الهواء ونساؤهم يزغردن. والثانية أنهم يعتبرون الديمقراطية عروساً، ويمارسون ذكورتهم عليها في ليلة الدخلة.
تروج، فور الإعلان عن بدء الترشح لعضوية مجلس الشعب، سوقُ المجانين والمهابيل، فينزلون إلى الشوارع كما لو أنهم سجناء يُسمح لهم بالخروج في الوقت المخصص لـ "التنفس"، فترى، حيثما مشيتَ، رجلاً ترتسم على وجهه علامات البلاهة يدخل في تجمعٍ للأهالي، ويعلن فيهم أنه سيرشّح نفسه لعضوية مجلس الشعب، استجابةً لإرادة الجماهير التي ترى أن وجوده تحت قبة المجلس ضرورة تاريخية!
كره السوريون حياتهم، وثيابَهم من استبداد نظام الأسد، ودجله، وعرسه الديمقراطي المزيف، المحكوم بقائمة الجبهة الوطنية التقدمية التي تُسمى "القائمة السحرية"، لأنها تُعْلَن قبل الانتخابات بيومين، فيفرح المرشحون الذين دفعوا ما فتح الله ورزق من الرشاوى، حتى جعلوا أبناءَ الأسرة الحاكمة والقيادات المخابراتية العليا يوافقون على إدراج أسمائهم فيها. ويقيمون الأفراح والليالي الملاح أمام بيوتهم، يغنّون، ويدبكون، ويطلقون النار في الهواء، وتزغرد نساؤهم احتفالاً بنجاحهم الذي سيتحوّل إلى حقيقة واقعة بعد يومين، أي حينما تُجرى الانتخابات. ولهذا ترى الأهالي، ومن باب النكاية، يؤيدون المرشحين المهابيل، ويركضون وراءهم في الأزقة، ويهتفون بأسمائهم، مثلما حصل مع المرشح عبد الحميد الفارط (اسم افتراضي) الذي رشّح نفسه في إدلب سنة 1994، فتبنته مجموعة من الظرفاء و"المسخرجية"، وطبعوا له صوراً للدعاية، كتبوا تحتها عبارة: انتخبوا مرشحكم المتماسك عبد الحميد الفارط، وأقاموا له سرادقا وضعوا في مدخله صورتَه (المرشح) إلى جانب صورة حافظ الأسد بالزي الفلاحي. وأحضروا جهاز تسجيل ذا مكبرات ضخمة يبث على مدار اليوم الأغاني القومية، وجهزوا أباريق الشاي ودلات القهوة المرّة، وراحوا يطلبون من مرشحهم الجريء "الفارط" أن يلقي بياناته الانتخابية كلما تجمع بضعةُ أشخاص في السرادق، فكان يصعد فوق برميل المازوت الفارغ الذي وضع في صدر المجلس خصيصاً لهذه الغاية، ويبدأ إطلاق الوعود التي لم تكن موجودة في جعبته من قبل، وإنما أتت استجابة لطلبات المواطنين (الجماهير)، ومنها هدم مدينة إدلب وإعادة بنائها على أوتوستراد حلب دمشق، لتصبح قادرةً على فقء حصرمةٍ في عين مدينة سراقب التي وضعها حظها الذي يفلق الصخر على الطريق العام! ومنها إعفاء شباب إدلب من العسكرية، وتسيير قطار إلى مختلف أنحاء سورية، على أن تمر سكته في شارع الجلاء، وتنعطّف غرباً مروراً بسوق الصياغ.
لا توجد حدود فاصلة بين المهابيل الذين يرشّحون أنفسهم لعضوية مجلس الشعب، ويتحولون إلى مادة للضحك والتندّر، وبين الأعضاء الذين حصلوا على العضوية بالفعل، فهؤلاء لا يقلون هبلاً عن أولئك، وهذا ظهر جلياً من خلال فيديو لعضو يدعو إلى مكافحة الإرهاب بالطبل والزمر، ويتحدّث عن "شهداء" يأتون إلى رجال الأعمال، ويطلبون منهم كراسي متحرّكةً ليجلسوا عليها، بعدما فقدوا أطرافهم السفلية! ناهيك بأعضاء كثيرين لا يعرفهم الناس، لأنهم يبقون ساكتين طوال سنوات العضوية الأربع.
ويبدو أن ظهور الهَبَل في سورية مرتبطٌ على نحو عضوي بقضايا الترشّح لمنصبٍ ما، فقد شاء قدرنا، نحن اللاجئين الهاربين من جحيم الكيماوي والبراميل، أن نستفتح سنة 2020 بتصريح لموظف إسرائيلي، اسمه أيدي كوهين، يتحدث عن رحيل الأسد، وعينك لا ترى إلا النور، إذا لم يبق أهبل أو مؤجّر الطابقَ الفوقاني إلا وأعلن ترشّحه لرئاسة الجمهورية. وكلهم، بلا استثناء، يسجلون فيديو على "يوتيوب" يعدوننا فيه بالويل والثبور وعظائم الأمور، ويؤكدون لنا أنهم قادمون إلينا بموجب توافق دولي، وبالإجماع، مثل قرارات مجلس الشعب المذكور أعلاه.