"مواطنو الرايخ" والانقلاب على الديمقراطية الألمانية
كاتب ومحامٍ وحقوقي سوري، المديرالسابق للهيئة السورية للعدالة والمحاسبة، مقيم في ألمانيا.
كشفت وزيرة الداخلية الاتحادية الألمانية، نانسي فيزر، أنه جرى القبض، قبل أيام، على 25 شخصاً من قيادات تنظيم "مواطني الرايخ" ضمن حملة مداهماتٍ شملت 11 ولاية ألمانية. وكانت قد ذكرت أنّ عدد منتسبي التنظيم قد ارتفع بمقدار ألفي منتسب العام الماضي وحده، ليصل المجموع إلى 23 ألفاً. كما أفادت الوزيرة بأنّ كثيرين من هؤلاء قد تلقوا تدريبات عسكرية في أثناء خدمتهم في الجيش الألماني وقوات الشرطة، وأنّهم مستعدّون لممارسة العنف لتحقيق أهدافهم، لكنّ الوزيرة أوضحت أنّه بعد المداهمات الأخيرة لم تعد هذه المجموعة تشكّل خطراً على الدولة. وكان رئيس جهاز الاستخبارات الداخلية، أو ما يسمّى المكتب الاتحادي لحماية الدستور (Bundesamt für Verfassungsschutz) قد قال إنّ الجهاز يراقب هذا التنظيم ويتابع أفراده عن كثب منذ نشأته.
عند استعراض أسماء بعض المعتقلين من قيادات التنظيم، ومهنهم ووظائفهم التي كانوا يشغلونها، تجد أنّ من بينهم أحد أمراء عائلة رويس الأرستقراطية (حكمت أجزاء من ولاية تورينغن الشرقية الحالية حتى قيام جمهورية فايمار عام 1918) هو هاينرش الثالث عشر (لم يعد لهم من صفاتهم هذه أي امتيازات سوى اللقب)، وأحد الضبّاط السابقين والكثير من موظفي الدولة في مستوياتٍ عليا في الأجهزة الإدارية. وفي أحدث إحصائيّة أعلن عنها مكتب التحقيقات الجنائية الاتحادي، تبيّن أنّه قد تمّ إنزال العقوبات بـ 239 فرداً من أعضاء التنظيم خلال العام الماضي وحده، على جرائم ارتكبوها بحق الدولة الألمانية، في حين تمّ تسجيل 10.500 جريمة ارتكبوها بين عامي 2015 و2017. وقد استدعى هذا من السياسيين في أحزاب الائتلاف الحاكم وأحزاب المعارضة الحديث عن ضرورة تعديل قانون فحص الانضباط الوظيفي الاتحادي، وقد قال بهذا الشأن رئيس المجموعة الإقليمية في حزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي المعارض (CSU) في ولاية بافاريا دوبرندكت: "من ينكر الدولة الألمانية من حيث المبدأ، لا يمكنه أن يعمل في أجهزتها ومؤسساتها".
أجواء الحرية والديمقراطية التي تسود ألمانيا هي التي سمحت لحركات كثيرة، بعضها متطرّف، مثل حركة "مواطني الرايخ" بالوجود والنمو
لا تعترف حركة "مواطني الرايخ" بوجود الدولة الألمانية التي تأسّست عام 1949، ولا يحمل أفرادُها وثائقَها الرسمية، وينكرون الدستور الألماني ولا يعترفون بالمحاكم والبرلمان والسلطات الأخرى، ولا يدفعون الضرائب، ويعتبرون أنّ بلدهم ما زال تحت الاحتلال الأجنبي، وهم يطبقون في ما بينهم قوانين الرايخ التي كانت سائدة من عام 1871 حتى سقوط الحكم النازي عام 1945. وتتألف الحركة من جناحين، سياسي مدني وعسكري. ويوصف أعضاؤها بأنّهم خليط غير متجانس من المنتمين إلى اليمين المتطرّف المعادين للسامية والمهاجرين والأقليات الدينية والعرقية، وهم ينكرون الهولوكوست، وبعضهم يعتقد أنّ أدولف هتلر قد انتقل إلى القارّة القطبية الجنوبية، لا يزال يحكم الرايخ (الإمبراطورية الألمانية) من هناك، وتتهم السلطات الألمانية الحركة بأنها تعمل على تقويض الدولة الألمانية المبنية على أسس الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان.
أجواء الحرية والديمقراطية التي تسود ألمانيا هي التي سمحت لحركات كثيرة، بعضها متطرّف، مثل حركة "مواطني الرايخ" بالوجود والنمو. وعلى الرغم من أنّ قوانين الجنسية تنصّ على وجوب احترام الدستور الألماني، فإنّه لا سبيل لتطبيق هذه النصوص على المواطنين الألمان الذين يحوزون المواطنية والجنسية بالولادة. أو بالأحرى لا مجال لفحص قضايا احترامهم الدستور إلا عند تعبيرهم عن ذلك صراحة، كما يقوم بذلك أعضاء حركة مواطني الرايخ. مع ذلك، يبقى من الصعوبة بمكان اتخاذ السلطات أي إجراءاتٍ بحقهم ما داموا لم ينتهكوا القوانين السائدة. ويبقى بالطبع متاحاً للسلطات الرسمية حلّ هذه الحركة وتجريم الانتساب إليها، لكنّها لم تقدم على ذلك.
لا يُعقل أن يكون تنظيمٌ تتألف قيادته من بضعة أفراد قادراً على إطاحة حكومة مستقرّة في دولة مؤسّسات ديمقراطية عريقة مثل ألمانيا
يرى بعضهم أنّ السلطات الألمانية قد ضخّمت من حجم هذه الحركة، وأنّها قد بالغت في وصف أعمالها بالمحاولة الانقلابية، وذلك بهدف تحضير الرأي العام الألماني لاستصدار تشريعاتٍ تقضي عليها. بينما يرى آخرون أنّ التساهل الكبير مع مثل هذه الحركات يشكّل أحد عيوب الديمقراطية الجوهرية، فهي من الأمراض المزمنة التي تلازمها ولا يمكنها التخلّص منها. والحقيقة إنّ كلا المذهبين صحيح، فلا يُعقل أن يكون تنظيمٌ تتألف قيادته من بضعة أفراد قادراً على إطاحة حكومة مستقرّة في دولة مؤسّسات ديمقراطية عريقة مثل ألمانيا. وظاهرة الانقلابات العسكرية ليست موجودة في مثل هذه الدول، ولا يمكن حتى تصوّرها، لأسباب كثيرة، لعلّ أبرزها انعدام ثقافة العنف في الوصول إلى السلطة، ورسوخ مبادئ المشاركة في الشأن العام عبر الطرق المشروعة ومنها الانتخابات، ووجود تقاليد عريقة تمنع الفكرة حتى من التشكّل، فحتى هتلر وحزبه النازي لم يصلا إلى سدّة الحكم بانقلاب عسكري، بل بالانتخابات التي ألغوها في ما بعد.
وفي المقابل، طبيعة الديمقراطية ذاتها تجعل من الصعوبة بمكان على السلطات الرسمية للدولة منع مثل هذه الحركات من النشوء، أو الحدّ من قدرتها على العمل والنشاط، وهذا ما يجعلها محل انتقاد دائم. والكاتب هنا من أصحاب الرأي أنّ الديمقراطية هي البيئة المناسبة أكثر ما يكون للعيش بحرية وكرامة، حتى وإنْ كان من بين أعراضها الجانبية السماح لمثل هذه التنظيمات بالوجود. ويكفي أن يكون هناك قانون مطبّقٌ على الجميع، ومحاكم مستقلة، وقضاة شرفاء، ومجتمع مدني قويّ وحاضر من خلال النقابات والاتحادات والجمعيات، ليفسح المجال أمام الناس للاختيار الحر، فإما مع دولة القانون التي تضع كرامة الإنسان في المادة الأولى من دستورها، أو مع دولة الرايخ التي تَمثّلَ آخر تجلٍّ لها في نازيّة حزب العمّال القومي الاشتراكي الألماني وقائده هتلر. وفي كلّ الأحوال، تبقى الديمقراطيّة، على كثير علّاتها، أفضل ما وصل إليه البشر من أنظمة للحكم.
كاتب ومحامٍ وحقوقي سوري، المديرالسابق للهيئة السورية للعدالة والمحاسبة، مقيم في ألمانيا.