مونديال قطر والمثقف النكدي
نجحنا … هذا باختصار وتكثيف ما حدث في الدوحة طوال شهر، وكان مشهده الختامي فوز الأرجنتين (وميسّي) بكأس العالم، كما تمنّى أغلب مشجعي "الكرة الحلوة". شهر من مدرّجات وشوارع وأسواق ومناطق مشجّعين بلا عنف، بلا شغب، بلا تحرّش، بلا اختناق مروري. احتفالات، وغناء، ورقص، وبهجة، ومتعة، وتعايش "حقيقي" بين أبناء ثقافات ودول مختلفة، وبيوت مفتوحة للغريب، وخيام ضيافة، لا دخل للدولة أو الجهات المنظّمة بها، تستقبل "الناس"، وتمنحهم بلا حسابٍ أو مقابل، وهو ما عجز بعض الضيوف عن فهمه في الأيام الأولى، وتعارَض مع الصورة الذهنية التي جاء بها، عن عربٍ أجلاف متخلفين. نجحنا، من دون مبالغة أو تضخيم أو مجاملات فات وقت الاحتياج إليها في بداية البطولة وفي أثنائها، ومع الحملات المنظّمة لتشويه المونديال أو اختزاله في تويتة لذاكر نايك، أو بوست لنجل الحويني أو تصريح كوميدي لمحمد أبو تريكة، (لا أعرف ماذا حدث له)... ما حدث كان أكبر وأعمق.
نحن أبناء حضارة لها تاريخ مشرّف، وحاضر مأزوم، دول مأزومة، وثقافات مأزومة، وبشر مأزومون، لا مجال لإنكار وجهي العملة، التاريخ والواقع، كما أن لا مجال لاختزال العرب والمسلمين في أحدهما من دون الآخر، لا نحن امتداد لماضينا، ولا نحن لقطاء، بلا تاريخ أو إسهام. يحتاج الواقع إلى نقده، بصرامة، خصوصا في ظل إصرار بعضنا على حراسة التخلّف، وشحنه بالرومانسية، وشرعنته، وتأبيده، أو التحايل على الهزيمة الحضارية "القائمة بالفعل" بادعاء انتصارات وهمية للذات، أو هزائم وهمية للآخر، يدفع ذلك إلى الغضب، إلى الحنق، إلى الصراخ، إلى التمرّد، وأحيانًا إلى اليأس. إلى هنا يمكننا فهم المثقف الغاضب، (لذاته لا عليها). وإلى هنا يمكننا، أو يجب علينا، الدفاع عنه في مواجهة تحليلات خفيفة ومتسرّعة تراه مهزوما، أو متغرّبا (والاستغراب في واقعنا ليس تهمة بل ضرورة)، إلا أن تعليقاتٍ تجاوزت بروباغندا ضرب "مونديال قطر" إلى التنظير والتحليل تشير إلى مثقف آخر تجاوز، بدوره، الغضب لذاته إلى كراهيتها.
ليس من حقّنا الاحتفاء بالنجاح العربي في قطر لأنه قائم على الثروة، ليس من حقّنا الاحتفاء بمنجز منتخب المغرب لأنهم ليسوا عرباً، بل أمازيغ، ولو كانوا عرباً فلا معنى لفرحة العربي للعربي، أو التضامن لأسباب دينية أو ثقافية أو تاريخية، كما أنه ليس من حقّ المغاربة أنفسهم اعتبار منجزهم مغاربياً أو عربياً لأن أغلب اللاعبين من مواليد أوروبا، وليس من حقّنا أن نفرح بارتداء ميسّي البشت العربي والتتويج به، وليس من حقّنا ترويج قيمنا أو ما تبقّى من حضارتنا، أفكاراً وممارسات، لم تتشوّه بشكل كامل، وما زالت وقوداً حضارياً وجذوراً يمكننا الانطلاق منها، وبها، إلى العالم، كما أنّه ليس من حقّنا أن يكون لنا جذور أصلاً لأنّنا "ولاد كلب".
لا أعرف "فعلاً" حضاريا لا يرتكن إلى الثروة، في أحد وجهيه، كما لا أعرف منجزاً حقيقياً، كالذي رأيناه طوال شهرٍ مضى يرتكن إلى المال وحده "بالعلم والمال يبني الناس ملكهم/ لم يُبنَ ملك على جهل وإقلال/"، هذا هو أحمد شوقي، ابن الحضارة المصرية، أمير شعراء العربية، ذو الأصول الكردية. وليس ميزةً عدمُ وجود التضامن بين البشر على أسس ثقافية في أي مكان في العالم، بل هو عيب، وعاهة نجونا منها. والمغرب أمازيغي وعربي، وأفريقي وعربي، وإنساني وعربي، واللاعبون مغاربة من مواليد أوروبا، وعرب من مواليد أوروبا، ومسلمون من مواليد أوروبا، وهم أبناء أمهاتهم وبيوتهم، قبل أماكن الميلاد والإقامة، واختاروا اللعب لمنتخبات بلادهم الأصلية ومن واجبنا احترام اختياراتهم، لا المزايدة عليهم وعلى أنفسنا، وثقافتنا فيها وفيها، ووجود ما يستحقّ النقد، لا يعني غياب ما يستحق الاحتفاء.
أخطر ما تواجهه تيارات التحديث، في بلادنا، تحوّل أصحابها إلى "مستشرقين محليين" وأبواق كراهية، ما يمنح خطابات الشعبوية ونفاق الأنظمة والجماهير شرعية وقيمة ومبرّرا... افرحوا، فنحن، ولو لمرّة، نستحقّ.