ميلانشون وانعطافة ماكرون نحو اليسار
هل ستكرّس الانتخابات الفرنسية التي أعادت انتخاب إيمانويل ماكرون لولاية رئاسية ثانية جان لوك ميلانشون زعيما لليسار الفرنسي، ما سيؤدّي إلى خلط الأوراق سياسيا وتعديل في موازين القوى عشية الانتخابات البرلمانية المقرّرة في 12 يونيو/حزيران المقبل؟ كانت الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية أشبه بلعبة "البولينغ" التي دحرجت طابتها في طريقها أكثر من حجر.. وفي التجديد لماكرون طعم المرارة المزدوجة بين الأكثرية التي صوّتت له من أجل قطع الطريق على مارين لوبان حصان اليمين المتطرّف وليس حبا به، واضطراره الآن إلى التفاوض مع قوى اليسار لتأمين أكثرية تحكم، ولكن بأي معادلة وبأية شروط؟ هل بتكليف ميلانشون ترؤس الحكومة الجديدة؟ ولفهم طبيعة المرحلة المقبلة التي سيكون عنوانها المساكنة أو التعايش بين رئيس جمهورية ورئيس حكومة ينتميان إلى تيارين مختلفين، كما حصل مع معظم رؤساء فرنسا هناك أرقام خرجت من صناديق الاقتراع، لا بد من التوقّف عندها، ولها مدلولات هامة.
أولا، النسبة التي حصلت عليها لوبان فاقت الـ41٪، وهي عالية جدا وقياسية، تؤشّر الى أنّ خطاب اليمين المتطرّف ليس عبثيًا أو عرضيا، بل بدأ يتجذّر وفي تصاعد مستمر ومقلق للمجتمع الفرنسي وللجمهورية التي ولدت من رحم الثورة الفرنسية. ويؤشّر هذا التقدم إلى احتمال أن يتمكّن اليمين المتطرّف من الفوز بالرئاسة في انتخابات العام 2027، خصوصا اذا ما استمرّ في الأكل من صحن اليمينين، الجمهوري والمحافظ، من ديغوليين سابقين ووسطيين وليبراليين، واذا استمر تشتّت قوى اليسار التي في وسعها، إذا التقت على برنامج اقتصادي اجتماعي، أن تواجه شعبوية الخطاب والوعود التي يحملها اليمين المتطرّف.
حصد ماكرون أصوات 75% في معاقل الشيوعيين واليسار
ثانيا، حصل ماكرون على 58.5% من الأصوات، أي أقل بنحو 10% تقريبا مما حصل عليه في العام 2017. وهناك حوالي 47% ممن صوّتوا له، أي النصف تقريبا لم يصوّتوا عن قناعة به، إنما من أجل قطع الطريق على مرشّحة اليمين المتطرّف، ومنعها من الوصول إلى قصر الإليزيه، وهذا يدلّ أيضا على أنّ فكرة ما اصطلح على تسميته "القوس الجمهوري"، أي تناسي اليسار واليمين الجمهوريين والمحافظين خلافاتهما ومنافساتهما، والالتفاف حول أي مرشّح منهما، لمنع وصول اليمين المتطرّف كما حصل أول مرة عام 2002، في المواجهة بين جاك شيراك وجان ماري لوبان الأب الذي سجل يومها المفاجأة الكبرى بتقدّمه في الدورة الثانية على سكرتير الحزب الاشتراكي، ليونيل جوسبان، إن فكرة "القوس الإنقاذي" هذه قد تحققت أيضا للمرة الثالثة، ولكن بشكل أضعف وهشّ هذه المرّة، إذ يتقدّم اليمين المتطرّف ويقضم من المعسكرين، رغم بروز منافس للوبان على يمينها، تمكّن من الحصول على نحو 8% من الأصوات.
ثالثا، سجّلت الانتخابات هذه السنة نسبة مقاطعة عالية جدًا، وصلت إلى 28%، وهي الأعلى منذ انتخابات عام 1969، على إثر استقالة الرئيس شارل ديغول وانتخاب رئيس حكومته جورج بومبيدو خلفا له، وهي أكثر ب 12 نقطة من عام 2007، يوم انتخب "الشيراكي المشاكس"، نيكولا ساركوزي، وبخمس نقاط عن عام 2017، عند انتخاب ماكرون رئيسا أول مرّة. وهذا يدلّ على حالة السخط العام التي وصلت إليها البلاد، وبالأخص عن عدم رضى شريحة واسعة من الفرنسيين على السياسة التي انتهجها ماكرون في الشأنين، الاقتصادي والاجتماعي، في السنوات الأخيرة.
رابعا، سجّلت المقاطعة رقما قياسيا بين الشباب في هذه الجولة، إذ بلغت نسبة 47%، وتراجعت نسبة الشباب المؤيد لرئيس شاب، كما حصل في الانتخابات الماضية، إذ تعادل ماكرون هذه المرّة مع مارين لوبان عند هذه الفئة. في المقابل، اكتسح الرئيس المجدّد له عند كبار السن (من هم فوق الـ 65 سنة)، غريمته وحاز 75% من أصوات المقترعين. وحافظ على نسبة عالية (68%) ممّن أعمارهم بين 18 و24 عاما.
خامسا، صوّتت المدن الكبرى بكثافة لماكرون، فسجّل أرقاماً قاربت الـ 80% في مدن مثل تولوز ومونبيليه وبوردو وستراسبورغ وليون، حتى المدن المتوسّطة أعطته نسبة 70% إلى 75%. ولم يكن جو الضواحي الباريسية بعيدا، فحصد ماكرون أصوات 75% في معاقل الشيوعيين واليسار، قابلتها نسبة مقاطعة كبيرة. غير أن اللافت والمفاجئ تفوّقه في مدن جنوب الشرق، مثل نيس وكان، حيث تتركّز قواعد اليمين الفاشي والمتطرّف. وقد حافظت الخريطة الفرنسية، بشكل عام، على تصويت الغرب وجنوب الغرب، حيث قواعد اليسار للمرشّح الذي يواجه اليمين المتطرّف، فيما التزم الشمال والشرق بتصويتهما الكثيف لزعيمة اليمين المتطرّف لوبان.
يجد ماكرون نفسه بين فكّي كماشة اليمين المتطرّف الذي بات يمثل بمفرده أكثر من ربع الناخبين واليسار الراديكالي
إلا أن الأبرز في هذه الانتخابات الرئاسية ظاهرتان لافتتان، وتؤشّران إلى أكثر من مغزى: تصويت أكثرية من العمّال بنسبة كبيرة للوبان (63%)، وليس للحزب الشيوعي، أو لأحد أحزاب اليسار، فيما تجسّدت الثانية باقتراع 38% من الذين صوّتوا لزعيم اليسار الراديكالي ميلانشون، في دورة الاقتراع الثانية لماكرون، و18% لمرشّحة اليمين المتطرّف لوبان. وهذا يعني أن فوز ماكرون قد تحقق بفعل تصويت شريحة واسعة من ناخبي اليسار الذين "عضّوا على الجرح"، لقطع الطريق على لوبان وبعض اليمين الجمهوري الذي يعيش حالة إرباك وتراجع مخيف، لم يمكّن مرشحته من تخطي نسبة 5%. وهذا ينسحب عموما على كل الأحزاب الفرنسية التقليدية، مثل الحزبين العريقين، الاشتراكي والشيوعي، اللذين لم يتمكّن مرشّحاهما من الحصول معا على أكثر من 7%. وهكذا يجد ماكرون نفسه، بعد أن كان صاحب التيار الأقوى بين فكّي كماشة اليمين المتطرّف الذي بات يمثل بمفرده أكثر من ربع الناخبين، واليسار الراديكالي الذي حرمته نسبة 1% فقط من التأهل إلى الدورة الثانية، وصنع مفاجأة كان بإمكانها أن تقلب الطاولة على ماكرون.
الوقائع والأرقام التي أفرزتها نتائج الانتخابات جعلت من ماكرون رئيسا أسيرا ومحاصرا على اليمين من اليمين المتطرّف، ومضطرّا على جهة اليسار للتفاوض، وإيجاد صيغة تعاون مع اليسار الذي يدير لعبته ميلانشون، خصوصا وأن تياره معرّض لهزيمة في الانتخابات النيابية المقبلة، لن ينتشله منها اليسار، كما في انتخابات الرئاسة، لأنه يريد أن يستغل حاجته إليه، كي يفرض عليه شروطه فيما يخص تشكيل الحكومة الجديدة، وفي السياسات التي ستتبع، إذ بدون اليسار لن تكون لماكرون أكثرية يتركز عليها، وليس بإمكانه، بطبيعة الحال، أن يستنجد باليمين المتطرّف، وهذه ما زالت من التابوهات في الحياة السياسية الفرنسية. وهذا اليسار الميلانشاوي بدأ فورا في إحراج ماكرون، سواء على الصعيدين، الاجتماعي والاقتصادي، والسياسة الضريبية، كما تجلى في تظاهرات الأول من مايو/ أيار في مناسبة الاحتفال بعيد العمال، أم بالنسبة للموقف من الحرب الروسية على أوكرانيا، إذ إن ميلانشون وقف في البرلمان، مطالبا بوقف إرسال الأسلحة إلى أوكرانيا وفتح أقنية التفاوض مع فلاديمير بوتين. لذلك، تشكل الانتخابات البرلمانية المقبلة التحدّي الثاني والأصعب الذي سيواجهه الرئيس الفرنسي، الطامح إلى لعب دور قيادي على الصعيد الأوروبي، بعد ابتعاد المستشارة الألمانية السابقة، أنجيلا ميركل، ومتسلحا بقدرته على التفاوض مع القيصر الروسي بوتين، الذي لم يقطع خيط العلاقة معه، مقابل علاقته الجيدة مع الرئيس الأميركي جو بايدن. فهل مع ميلانشون رئيسا للحكومة وأفكاره المعادية لحلف شمال الأطلسي وللسياسات الاقتصادية الأوروبية غير الحمائية، يبقى ماكرون قادرا على الاحتفاظ بالموقع والدور؟