مُستجدّات الملفّ السوري
الإغراءات التي تدفع المرء إلى الخوض في سوالف السوريين قليلة. لو كانت الأمور تراوح في مكانها؛ لاعتبرنا ذلك نعمةً تُبَاسُ عليها اليدُ وتوضع على الرأس، ولكن المقياسَ الوحيد الذي ينطبق على أوضاعنا، من وجهة نظر محسوبكم، بيتٌ من الشعر الساخر أبدعه شاعرُ الفلاسفة أبو العلاء المعري، ونسبه لشاعر من بلدة كفر طاب، اسمه الجَحْجَلُول، يقول: صَلُحَتْ حالتي إلى الخلفِ حتّى/ صرتُ أمشي إلى الورى زَقَفونة (المشي بالمقلوب).
ويبدو أن غذّ السير إلى الوراء لا يقتصر على السوريين، فمما يُروى عن الشيخ خالد محمد خالد، أنّه أغضب الرئيسَ جمال عبد الناصر عندما قابله، سنة 1958، عندما قال له: "أنا أرى أنّ ثورة 23 يوليو كانت خطوة إلى الوراء في ما يتعلق بالحرّيات العامة، وحقوق الإنسان في مصر". والشيخ خالد، كما أعتقد، استخدم كلمة "ثورة" على سبيل المجاز، فهو يعرف أنّ ما حصل يوم 23 يوليو ليس إلّا انقلاباً عسكرياً ناجحاً، وأمّا في الحالة السورية، فيمكن إطلاق اسم "ثورة" على ما جرى في مارس/ آذار 2011، وما بعده ببضعة شهور، ثم أصبحت، كما يقال، وراءنا، ومحاولات بعض الثوار والمعارضين استعادتها باءت كلّها بالفشل.. وإذا أراد عقلاؤنا، اليوم، تبنّي مطالب أكثر واقعية، فليسعوا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من سورية المعطوبة، المجزأة، المتناحرة، النازفة، وإعادة أيّ عدد، مهما كان صغيراً، من اللاجئين السوريين الذين يعانون الذل والهوان في المخيّمات، ودول الجوار، إلى ديارهم، والحيلولة دون حدوث دفعة جديدة من الكوارث التي يمكن أن تَذهب بالبلاد والشعب إلى "جورة تاريخية" يصعب الخروج منها في المدى المنظور. لا جديدَ، في الشأن السوري، على المستوى الدبلوماسي.
ثمّة تصريحان لوزيري الخارجية والدفاع التركييْن، وثالثٌ لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، تشير كلّها إلى أنّ مسار التطبيع بين سورية وتركيا، الذي كانت روسيا تخطّط له، قد توقّف، واتضح، كذلك، أنّ الأحاديث التي تدور بين السوريين، عن خطط، أو سيناريوهات تُطْبَخُ في قُدُور المجتمع الدولي، ضعيفة، لأنّ الدول الكبرى المُتدخّلة في الشأن السوري غارقة في مشاكلها الأكثر أهمية وإلحاحاً من الشأن السوري؛ فروسيا ماضية في الحرب على أوكرانيا، وأميركا مشغولة بقضيتيْن كبيرتيْن. الأولى، الانتخابات الرئاسية التي تشهد منافسة شرسة بين ترامب والديمقراطيين. والثانية، حرب ذات جبهات متعدّدة تدور في أراضي الشرق الأوسط، حيث أميركا وإسرائيل تستهدفان كلّ وجود لإيران في سورية ولبنان والعراق، عدا عن الاجتياح الإسرائيلي لغزّة، والتسخين المستمر على الجبهة اللبنانية.. ونظام الأسد، نفسه، يبدو متململاً من الوجود الإيراني، حتّى إنّ الناشط السياسي بشّار برهوم، وهو مُؤيّد لنظام الأسد (يتظاهر بأنّه مُعارض)، صرّح، في مقابلة مع طوني خليفة، أنّ إيران تحتل الموقع رقم واحد في قائمة أعداء الشعب، قبل إسرائيل، هكذا بكلّ وضوح، ناهيك عما تتداوله صُحف ووسائل تواصل اجتماعي كثيرة، من أنّ بعض رجال المخابرات السوريين يُسرّبون لإسرائيل إحداثيات الوجود الإيراني، وهناك مُؤشّرات على ذلك، أبرزها أنّ هذا القصف الإسرائيلي كلّه، شبه اليومي، للمواقع الإيرانية الموجودة على الأرض السورية، والنظام يتخذ وضعية "المزهرية".
ومما يدلّ على أنّ المجتمع الدولي لا ينوي التدخّل المباشر في الشأن السوري، ولا يضع أيّ سيناريوهات لحلّ يُحافظ على وحدة سورية، ويُخرجها مما هي فيه، أنّ أميركا مستمرة في تشديد الخناق على نظام الأسد، ما يعني أنّ استراتيجيتها تتلخص في إماتته سريرياً، ولا يمكن الجزم بأنّ هذه السياسة منطلقة من الفكرة الأميركية القديمة عن الشرق الأوسط، أعني الفوضى الخلاقة. أميل إلى الاعتقاد، أخيراً، بأنّ السوريين، على اختلاف مواقعهم، يضيّعون على أنفسهم فرصة تاريخية؛ أن يتركوا المجتمع الدولي غارقاً في مشاكله، وأن يبادروا إلى إيجاد حلّ سوري لقضيتهم؛ تسوية تاريخية، فإن لم يفعلوا فسيكون مصيرهم كارثياً أكثر مما هو عليه اليوم.