نابلس: استحقاقات التاريخ المؤجّل
يعلم النظام الرسمي العربي، كما يعلم الاحتلال الصهيوني، تمام العلم، أن كل ما جرى ويجري، منذ تدشين خط إنتاج السلام الوهمي عقب توقيعات أنور السادات في سبعينيات القرن الماضي، ليس سوى محاولة لتجميد حركة التاريخ الطبيعية، مؤقتًا، وليس إنهاءً لها أو تفريغها من مآلاتها الحتمية.
كل الأطراف مسكونةٌ بأن النهاية الوحيدة المنطقية للصراع هي العودة إلى لحظة ما قبل افتتاح الصراع في أوائل القرن الماضي، بإشارةٍ من السيد آرثر جيمس بلفور، صاحب الوعد الشهير، الكريه، وأن كل ما تفعله الأنظمة المتشاركة في مسيرة التطبيع المستحيل هو من أجل ضمان مرور فترةٍ توليها السلطة في هدوء.
فلسطين هي القضية المؤجّلة طوال الوقت للأجيال المقبلة، كل جيل يدرك يقينًا أن جيلًا سوف يأتي بعده يمتلك وعيًا مغايرًا بها، وأهدافًا مختلفة تمامًا عن أهداف الجيل الممدّد على مقاعد التطبيع الوثيرة.
ما يدور حاليًا في نابلس وفي جنين، وبقية مدن الضفة الغربية، هو اتساق منطقي وعادل مع طرف من استحقاقات التاريخ، بمعنى انتقال المسألة من ردّة فعل فلسطينية طبيعية على فعل وقاحة صهيونية منطقية كذلك على ضوء طبيعة الاحتلال، إلى مشروع فلسطيني عام للمقاومة والتحرّر من الاحتلال، الذي يمتلك مشروعه الخاص، مدفوعًا بوهم القدرة على قضم كل فلسطين والاحتفال بذلك الإنجاز بمباركة أصدقائه المتواطئين من أنظمة الحكم العربية التي تقتات على التطبيع.
يدرك الشعب الفلسطيني، والعربي كذلك، كما يدرك المحتلّ الإسرائيلي، أن توقيعات الأنظمة على "كامب ديفيد" ثم "أوسلو" وأخواتهما وانتهاء بتوقيعات عرب دونالد ترامب في حديقة البيت الأبيض (كامب ديفيد الثانية 2020) ليست سوى حبر على ورق، سيجفّ الحبر ويحترق الورق ذات يوم، قريبًا كان أم بعيدًا. وعلى ضوء ذلك، يمكن فهم بطولات المقاومة في الضفة الغربية ضد توغلات الاحتلال هي بمثابة إعادة ضبط للمفاهيم وتصحيح للمعاني، وإعادة تسمية الأشياء بمسمّياتها الحقيقية: احتلال عسكري تقابله مقاومة باسلة من أصحاب الأرض، تلك المعادلة التي لم تنجح 45 عامًا من محاولات فرض مشروع التطبيع واستكماله في إلغائها أو تغييرها.
سيُحاول العرب الرسميون، كما في كل مرّة، الحيلولة دون تطوّر الأمور إلى فعل مقاومة، مستمر ومبدئي واستراتيجي، محمولًا على عقيدة راسخة تؤمن بأن جوهر وجود الإنسان الفلسطيني هو سعيه نحو تحرير أرضه المغتصبة وتاريخه المسروق، ونضاله الذي يمارس عليه الرسميون العرب عمليات بيع وشراء في السوق السوداء لما يسمّى السلام، وسوف يفشلون، أيضًا كما في كل مرّة، وسيخرج لهم كل حين أبطال مثل المصري محمد صلاح، يصوّب سلاحه في الاتجاه الصحيح، تفاعلًا مع واستجابة لبسالة فلسطينية متجدّدة في الأراضي المحتلة، تنادي على الشرف العربي.
مرّة أخرى، ولن تكون أخيرة، كل مستوطنة إسرائيلية هي قرية فلسطينية منتزعة، وكل مسكنٍ لإسرائيلي هو بيت فلسطيني مسروق، وكل مدني هو محاربٌ أكثر وحشيةً وشراسةً ضد الحق وضد العدل وضد المنطق، ومن ثم يبقى كل مترٍ من الأرض الفلسطينية دار حرب، فرضها المحتلون، ووضعوا قوانينها وشروطها الهمجية.
وبناءً على كل ما سبق، وكل ما سوف يلحق، ستأتي الانتفاضة الفلسطينية الشاملة، إن لم تكن الآن، فالمؤكد أنها هناك تستعدّ على قارعة المستقبل.