نجاح مؤسِف للإعلام الحربي في السودان
التزمت القوى السياسية السودانية بخطّ الوساطة بين العسكريين منذ لقائها بوفد المكوّن العسكري (الفريق أول محمد حمدان دقلو، الفريق ياسر العطا، الفريق شمس الدين كباشي، والفريق إبراهيم جابر)، في منزل السفير السعودي بالخرطوم، بحضور مساعدة وزير الخارجية الأميركي للشؤون الأفريقية مولي في، بداية يونيو/ حزيران 2022، بعد سبعة شهور من الانقلاب العسكري الذي أطاح حكومة عبد الله حمدوك وقوى الحرية والتغيير. كان اللقاء مُحبطاً للمطالبين بإسقاط سلطة الانقلاب عبر المقاومة السلمية من دون أي تفاوض أو عملية سياسية. منذ ذلك الاجتماع، أصبحت "الحرية والتغيير" تعمل على تخفيف التوتر بين الطرفين العسكريين، وهو توتّرٌ قديم بدأ في عهد حكومة عبد الله حمدوك الانتقالية، لكن طرفيه ظلا ينفيانه حتى تفجّر علناً عقب تنفيذهما انقلاب 25 أكتوبر/ تشرين الأول (2021)، وتعقد مساره وشراسة المقاومة الشعبية السلمية.
من نافلة القول إن جهود القوى السياسية المدنية لمنع انفجار الحرب لم تنجح، بل حمّل خصوم القوى المدنية من الحركة الإسلامية والشموليين العسكريين والمدنيين وغيرهم القوى المدنية ذنب اندلاع الحرب! فهل تمتلك تنسيقية القوى الديمقراطية والمدنيّة (تقدّم) مساحة للحركة تمكّنها من تحقيق مسعاها المعلن إلى وقف الحرب؟ على الأرض، يبدو أن القوى المدنية تلقّت ضربات قاسية من "قوى الإعلام الحربي". استطاعت آلة الدعاية الحربية، المنظمة والعفوية، أن تضع القوى السياسية المدنية في موضع الاتهام! مستغلة في ذلك كثيراً من التدليس والشائعات والتحريف، والكثير من التصريحات والمواقف المرتبكة وغير المدروسة التي صدرت عن القوى السياسية واتخذتها. في مقابل براءة بأثر رجعي وحكم مستقبلي للجيش، وحده أو متحالفاً مع الحركة الإسلامية، وبظهير من بعض الإدارات القبلية.
تسعى آلة الدعاية الحربية لمسح كل جرائم السلطة مقابل التخلص من كارثة قوات الدعم السريع، ومن القوى السياسية المدنية التي ظلت تعارض نظام عمر البشير ثلاثة عقود، وقادت العملية السياسية عقب عزل الرئيس السابق عمر البشير بتأييد شعبي جارف. منذ إبريل/ نيسان 2019 حتى أغسطس/ آب 2019، ظلّت قوى الحرية والتغيير مفاوضة باسم السودانيين، وراح في أثناء التفاوض عشرات الضحايا في هجمات متفرّقة من الأجهزة الأمنية، قبل أن يفضّ المجلس العسكري الاعتصامات السلمية مخلفاً مئات القتلى والمفقودين. كل هذا الجهد الشعبي الثوري كان رفضاً لحكم المجلس العسكري للفترة الانتقالية. ولما قبلت الأحزاب بمشاركة الجيش في السلطة السيادية لم يرض ذلك الشارع، لكن الاتفاق مرّ. وفي 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، قبل موعد تسليم رئاسة مجلس السيادة للمدنيين بأسابيع، نفذ الجنرالان عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو (حميدتي) انقلابهما، وسقط مئات الضحايا في مواجهته.
ورغم أن صور شهداء ثورة ديسمبر/ كانون الأول السودانية (2018) وأسماءهم كانت ما يحفظه الناس قبل حرب 15 إبريل/ نيسان، ويعرفون من قتلهم، إلا أن الحرب أوجدت واقعاً جديداً يُحتفى فيه بالجنرالين أحدهما منقذاً للدولة، والآخر مقاتلاً ثورياً! على حين تُلقى التهم على القوى المدنية التي ما رفعت عصا تحارب بها وهي تقاد إلى المعتقلات! ورفضت التصعيد السلمي أكثر من مرّة خشية رد فعل السلطة العسكرية العنيف ضد المواطنين. أما كل الذين قتلوا في سبيل تثبيت سلطة الجنرالين فيحاول الإعلام الحربي دفنهم تحت بارود المعارك.
نجح الإعلام الحربي بشكلٍ يستحقّ الدراسة في تحويل لوم القوى السياسية من "عجزها عن الفعل الثوري اللازم لإطاحة الجنرالات من السلطة" إلى "تخطيطها انقلاباً عسكرياً مع قوات الدعم السريع، تحوّل إلى حرب مفتوحة بعد فشله"، فأصبح من يتهمون بالركون إلى التسويات السياسية بحجّة حقن الدماء، متهمون اليوم بالتخطيط لانقلاب عسكري للاستيلاء على السلطة بالقوة!
نجاح الإعلام الحربي في تشكيل وعي قطاع كبير من المواطنين، وتسويق روايات مرتبكة وغير منطقية، ليس عملية معزولة عن عجز القوى المدنية أيضاً عن تقديم سردية محكمة لرؤيتها إلى كيف نشبت الحرب، وكيف يمكن أن تنتهي، ولا هو معزول عن أخطائها.
وككل شيء في هذه الحرب، تمتدّ خسائرها لتشمل مستقبل البلاد كله، فما يبشّر به الإعلام الحربي في حال انتصار الجيش عسكرياً هو حكم عسكري تقبع فيه الأحزاب التي وقفت ضد نظام البشير ثم المجلس العسكري في السجون بتهمة الحرب ضد الدولة! أما الخيار العسكري الآخر فهو انتصار المليشيا، وهو خيارٌ بقدر ما هو مستبعد بقدر ما هو مخيف.