نجيب محفوظ .. سؤال الهوية
نجيب محفوظ.. ملأ الدنيا وشغل الناس، وأنجز في الرواية العربية ما لم ينجزه غيره، حتى رأى بعض النقاد أنّ تجاوز مشروع نجيب محفوظ حجر عثرة أمام الرواية العربية. أول من كتب عن عم نجيب هو سيد قطب. هذا تاريخ، لا علاقة له بالحسابات الأيديولوجية، بشّر به وراهن عليه (قبل الثلاثية). كان قطب، في تقديري، ناقداً وأشياء أخرى، ولا يمكن فهمه كاتباً ومفكّراً إلا من زاوية النقد. ومن دون ذلك، لن تصل معه إلى شيء. وحده الناقد هو من يختصر شخصية قطب، وليته استمر ناقداً فحسب. كان "جواهرجياً" رأى في محفوظ، في مرحلة مبكرة، ما رآه الجميع بعد الثلاثية، أي بعد تحقّق الرهان. قبل نجيب، كانت ثمّة رواية غربية، ومحاولات عربية للمحاكاة. مع محفوظ وثلاثيته، صارت لدينا رواية عربية، انشغل محفوظ بسؤال الهوية، هوية الكاتب، وهوية الكتابة، هوية الشكل، وهوية المضمون. واجه مشكلة التراث، من أين يبدأ؟ لا رواية عربية قبله... طه حسين يكتب الرواية، لكن من هو؟ إنّه طه حسين المفكّر. عباس العقاد يكتب الرواية، لكن من هو؟ العقاد المفكر، الذي يحتقر القصة والرواية. روايات توفيق الحكيم ممتعة، وهو من أساتذة محفوظ، لكنها أقرب إلى المسرح. هكذا يتحدّث إلى جمال الغيطاني، (في كتاب نجيب محفوظ يتذكر)، ويخبره بمشكلته الأولى، والتي لم يكن لها حل سوى تراث الأدب العربي؛ "الكامل" للمبرّد، و"الأمالي" لأبي علي القالي. هكذا يقرأ دوستويفسكي وتولستوي وتشيخوف وهو على أرض صلبة، لا يخشى ذوباناً في الآخر أو تخلفاً عنه.
لا يتجاوز محفوظ في رواياته هويته، المكان والزمان والثقافة والتاريخ، ولا يخشى من التكرار أو الإملال، فهو "أسطى" قادر على تحويل قطعة خشب من خامةٍ واحدة، إلى آلافٍ من أشكال الأرابيسك، لا يتجاوز القاهرة القديمة، حيث تربّى وشرب؛ الجمالية وبيت القاضي، المساجد والآثار الإسلامية، ناسها وفتواتها، مقاهيها وحوانيتها وحماماتها، رجالها ونساءها وشيوخها. يرى في مرآتهم العالم، لا يتجاوز اللغة العربية. الحوار عند محفوظ فصيح بنكهة العامية. ذكي، مراوغ، يتحرّك مع الشخصية وتركيبها، بسيط مع الشخصية البسيطة، عميق حين تكون عميقةً، يتحدّث الفصحى على لسان اللص والمتصوف والمثقف والراقصة والفتوة وأستاذ الجامعة. تتدرج مستويات الفصحى، صعوداً وهبوطاً، كأنها عجينة في يده، ولا تدري من منهما يشكل الآخر؟!
هوية نجيب محفوظ الدينية حاضرة بقوة، علاقته بالإسلام واضحة، مباشرة، لا تحتمل التأويل أو التزوير. هوية المنتمي، المحبّ، المنحاز، من دون أدنى شك. هوية لا يمكن لأزمةٍ مفتعلةٍ، مثل قضية "أولاد حارتنا" ومصادرتها، واتهام صاحبها، زوراً، وعقاباً له على نجاحه، بالكفر، أن تنال منها. محفوظ مسلم الدين واللغة والانتماء الثقافي والحضاري في "كلّ" رواياته، ومراحله، وأولاها "أولاد حارتنا". يقول ذلك بوضوح غير مرة، في ورقة مقدمة لمؤتمر في صحيفة الأهرام، في نقاش مع المفكر الإسلامي أحمد كمال أبو المجد، كتب عنه وسجّله الأخير في مقال (نشره في الأهرام 29 ديسمبر/ كانون الأول 1994)، حتى إن واحداً من أقرب الكتب التي تناولت مشروعه الإبداعي إلى قلبه، كان كتاب محمد حسن عبد الله، "الإسلامية والروحية في أدب نجيب محفوظ".
في الربع الأخير من القرن الماضي، بدأ محفوظ في نشر مقالات صحافية، قصيرة، مكثّفة، يبث فيها أفكاره وخلاصة تجربته، في قالبٍ غير الرواية. جمعها من بعد فتحي العشري، وبوّبها، ونشرها، بموافقة محفوظ، في سلسلة كتب، (صدرت عن الدار المصرية اللبنانية). وفي ظني أنه لم يخلُ كتابٌ منها، على تنوع الموضوعات، من معالجة الهوية. لم يرَ محفوظ بأساً من تنوع الهويات، مصرية وعربية وإسلامية وإنسانية. رأى في الهوية عاملاً مساعداً على التقّدم، اندهش من اعتبار الفكرة المستوردة سبّة، اعتمد معيار النفع والضرر، بديلاً ناضجاً عن الوافد والموروث، ورأى أن السؤال ليس "كيف نحافظ على هويتنا؟" إنما "كيف نثري هويتنا ببدائع الزمن بدون أن نفقد من هويتنا الأصلية ما يصلح لكل زمن؟".