نحو قانون أسرة أكثر مساواة وعدالة للمرأة المصرية
وسط الانشغال بجدية الحوار الوطني في مصر وفرص نجاحه في توسيع مساحة الحريات العامة في البلاد، تخوض المنظمات النسائية المصرية معركة أخرى، لم تأخذ نصيبها المستحق من النقاش العام، وتتعلق بإصلاح ضروري طال انتظاره لقانون الأحوال الشخصية المصري. فقد تقدّمت، أخيرا، عضو مجلس النواب، نشوى الديب، وبدعم من 60 من زملائها وزميلاتها في المجلس، بمشروع قانون جديد للأحوال الشخصية، لتحقيق مساواة وعدالة للمرأة المصرية في إطار الأسرة، يمثل خلاصة عمل وبحث معمّق طويل لمنظمات حقوق المرأة المصرية عشرين عاماً، وفي مقدمتها مؤسسة قضايا المرأة المصرية. ومن مقترحات مشروع القانون جعل الطلاق بيد القضاء بدلاً من الطلاق بإرادة منفردة للرجال، وتقييد تعدّد الزوجات بحيث يكون بإذن من القاضي في شروط وأسباب محدّدة، وحق الأم المسيحية المتزوجة من مسلم في الاحتفاظ بحضانة أطفالها أسوة بالأم المسلمة، وتبني مبدأ المصلحة الفضلى للطفل في نظر ترتيبات حقوق حضانة الأطفال بعد الطلاق، والتأكيد صراحة على رفع سن الزواج إلى 18عاما لمواجهة التحايل الذي يجري على القانون، ويؤدي إلى استمرار ظاهرة زواج الأطفال... وينطلق مشروع القانون من دراسة مقارنة متأنية لقوانين الأسرة في بلدان عربية وإسلامية، خصوصا مدوّنة الأسرة المغربية الصادرة في فبراير/ شباط 2004، والاتجاهات المختلفة للفقه الإسلامي المقارن، بحيث تحقّق مواده أكبر قدرٍ من الانسجام بين أحكام الشريعة الإسلامية والمواثيق الدولية المنظّمة لحقوق المرأة.
وكانت مسألة حدود تقييد سلطة الرجل المطلقة في الطلاق الشفوي من طرف واحد من نقاطٍ أثارت جدلاً واسعاً خلال السنوات الأخيرة، فقد دعا الرئيس عبد الفتاح السيسي، في يناير/ كانون الثاني 2017، إلى تبنّي تعديل تشريعي يلزم بتوثيق عقود الطلاق مثل عقود الزواج، مشيراً إلى بيانات التعبئة العامة والإحصاء بشأن تزايد عدد حالات الطلاق في مصر. إلا أن هذا المقترح واجه رفضاً قطعيا من الأزهر الذي أكّد، في بيان هيئة كبار العلماء في الأزهر، في فبراير/ شباط 2017 "أن وقوع الطلاق الشفوي هو ما استقرّ عليه المسلمون منذ عهد النبي، لكنها تركت مخرجاً للسلطة في إمكانية سنّ تشريعٍ يكفل توقيع عقوبة تعزيرية رادعة على من امتنع عن توثيق الطلاق الشفوي أو ماطل فيه". وقد أعاد السيسي الإشارة إلى مسألة إصلاح تنظيم الطلاق في مؤتمر إطلاق الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان في سبتمبر/ أيلول 2021، ثم في خطابه في احتفالية يوم المرأة في مارس/ آذار 2022. وفي مداخلة هاتفية مع إحدى الفضائيات المصرية في مايو/ أيار 2022، دعا السيسي الحكومة والأزهر إلى إعداد قانون جديد للأحوال الشخصية.
أثارت مسألة حدود تقييد سلطة الرجل المطلقة في الطلاق الشفوي من طرف واحد جدلاً واسعاً
تختلف طبيعة نصوص قوانين الأحوال الشخصية العربية، وحدود إصلاحاتها في القرن العشرين، تبعاً لتغيير السياقات السياسية والاجتماعية، فقد قطعت الدول العربية في شمال أفريقيا خطوات نوعية على طريق المساواة بين الرجال والنساء في قوانين الأسرة، بينما لا تزال دول الخليج والمشرق العربي، ومنها مصر، تسير بخطوات محدودة، حيث لا تتناقض قوانين الأسرة في هذه الدول فقط مع الاتفاقات الدولية لحقوق الإنسان، بل إنها أيضا لم تعد تتناسب مع الواقع الاجتماعي والثقافي والاقتصادي المتغير في المجتمعات العربية خلال العشرين سنة الأخيرة. وكانت تونس من أوائل الدول العربية التي تبنّت قانونا تقدّميا للأسرة عام 1957، كفل ضمانات وحقوقا للمرأة لم تكن معهودة في أي قانون أسرة عربي آخر في ذلك الوقت. وقد خضع القانون التونسي لمزيد من الإصلاحات في عقد التسعينيات. وقد تجدّد النقاش بشأن ادخال مزيد من الإصلاحات بعد الثورة التونسية، وفي ظل ضغط المجتمع المدني والحركة النسوية في تونس حيث تشكلت لجنة الحقوق والحريات الفردية بقرار من الرئيس السابق، الباجي قايد السبسي، والتي قدّمت توصياتٍ جديدةً، لإقرار المساواة التامة بين الرجال والنساء؛ إلا أن البيئة السياسية في تونس لم تكن مؤهّلة لتطبيقها. وفي المغرب، تمثلت الخطوة الأهم في تبنّي مدونة الأسرة عام 2004، وكان صدورها نتاج توازن سياسي دقيق بين تبنّي المؤسسة الملكية هذا القانون، بما لها من مكانة أدبية ودينية في المجتمع المغربي، ودعم المجتمع المدني ونشطاء حقوق الإنسان، وفي ظل معارضة من التيارات الإسلامية والمحافظة. وقد سعى هذا القانون، كما تنص ديباجته، إلى "إعمال الاجتهاد في استنباط الأحكام، مع الاستهداء بما تقتضيه روح العصر والتطور، والتزام المملكة بحقوق الإنسان كما هو متعارف عليها عالميا". وفيما يخص تنظيم الطلاق، على سبيل المثال، تبنّى النموذج التونسي إصلاحاً جذرياً حيث يتساوى الزوجان من دون تمييز أمام التحكيم القضائي في نظر قضايا الطلاق. بينما تبنّى المشرّع المغربي سيناريو آخر، يتمثل في احتفاظ الرجل بسلطة الطلاق، لكن لا يتم وقوعه إلا بإذن من المحكمة، وهو ما يقترحه مشروع القانون المقدّم من المنظمات النسائية المصرية. وقد نادى بهذا الإصلاح في مصر الشيخ محمد عبده في نهاية القرن التاسع عشر. كما طرح قاسم أمين في كتابه "تحرير المرأة"، الصادر عام 1899، مقترحات لجعل الطلاق أمام القاضي أو المأذون، ومقترحا آخر لتقييد تعدّد الزوجات.
كان مخاض إصلاح قانون الأحوال الشخصية في مصر عسيراً ومعرّضاً للانتكاسات في كل محطاته
وكان مخاض إصلاح قانون الأحوال الشخصية في مصر عسيراً ومعرّضاً للانتكاسات في كل محطاته عبر القرن العشرين، فقد بقيت القوانين الصادرة في الربع الأول من القرن العشرين ساريةً من دون إصلاح، إلى أن حاول الرئيس أنور السادات تبنّي تعديلاتٍ نوعية للقانون نهاية السبعينيات، لكنها لم تستمر طويلاً بعد الحكم بعدم دستورية القانون، لسبب اجرائي عام 1985. ثم أدخلت إصلاحات في الثمانينيات على القانون، بحيث يوسّع من صلاحيات المرأة في الطلاق بضرر، ويجعل الطلاق، في حال تعدّد الزوجات، أحد خيارات المرأة، ولكن في ظل شروط صارمة. ثم جاء إقرار حق المرأة في الخلع في يناير/ كانون الثاني 2000، والذي لم يحظ وقتها بدعمٍ ليس فقط من التيارات الإسلامية، ولكن حتى من فصائل أخرى من المعارضة الليبرالية المصرية. ولكن وقوف الأزهر والمحكمة الدستورية العليا خلف هذه الإصلاحات ساعد على استمرارها واستقرارها، على الرغم من تعدّد المعارضين لها. ولكن هذه الإصلاحات استنفدت الغرض منها، ولم تعد كافيةً في تحقيق المساواة والعدالة في الأسرة المصرية. وفتح هذا النقاش اليوم في المجتمع المصري أمر ضروري، حيث لم يخضع قانون الأحوال الشخصية لأي مراجعة جذرية منذ إقرار حق المرأة في الخلع منذ أكثر من عشرين عاماً، بل شهدت سنوات ما بعد الثورة المصرية جدالات سياسية حادّة بالتزامن مع الصعود السياسي لجماعة الإخوان المسلمين والأحزاب السلفية كادت أن تعصف بالمكتسبات المحدودة التي حقّقتها المرأة المصرية في المحطات المختلفة لإصلاح قانون الأحوال الشخصية منذ الثمانينيات من القرن الماضي.
يقدّم مشروع القانون الذي تقدّمت به النائبة نشوى الديب الحد الأدنى حقوقياً، والذي يمكن الدفع به لتحسين وضعية المرأة في الأسرة. ولكن يبدو أنه لن يكون أساس التعديل التشريعي المرتقب، فمن الواضح أن بنود هذا المشروع لن تنال دعم مؤسسة الأزهر، كما أن الحكومة أخذت زمام المبادرة، متجاهله هذا المشروع، من خلال تشكيل وزير العدل المصري، أخيرا، لجنة خبراء رسمية لإعداد قانون الأحوال الشخصية الجديد. وما يقلق أن هذه اللجنة ضمت، في أغلب عضويتها، قضاة من الرجال، ولم تشمل ممثلين عن المجتمع المدني، أو المنظمات النسائية المشغولة بهذا الملف. وفي ضوء تاريخ مسيرة إصلاحات قانون الأحوال الشخصية في مصر، فإن نجاح أي إصلاح جذري لهذا القانون يتطلّب، إلى جانب توافر الإرادة السياسية لدى السلطتين، التنفيذية والتشريعية، تفهما ودعما رمزيا وأدبيا من قيادات الأزهر، واستعدادا من القضاء المصري، وخصوصا المحكمة الدستورية العليا لتقديم الحماية الدستورية له، وتأصيل التوفيق بين ما سينصّ عليه هذا القانون مع المادة الثانية من الدستور المصري، والتي تنصّ على أن مبادئ الشرعية الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع، عبر الاستفادة القصوى من التنوع في اتجاهات الفقه الإسلامي، والانحياز للتفسيرات المستنيرة والإصلاحية.