نظام لبناني لا ينتج إلا الأزمات
يبدو أن من الأسهل أن نسأل عن الأمور المجدية التي أنجزتها الحكومات اللبنانية المتعاقبة، بدل أن نسأل عمّا أخفقت فيه، لا سيما أن التعديات التي مارستها، خصوصًا الحكومتين الأخيرتين، بحق التقاليد والأعراف الدبلوماسية المتبّعة، وبحق الدولة والشعب اللبنانيين، سواء لناحية عدم الالتزام بالتخاطب والممارسة السياسية المؤسساتية، أو لناحية خرق الالتزام بالبروتوكولات المتبّعة في التواصل والتعامل مع غيرها من الحكومات والدول، باتت بمثابة وصمة عار في سجلّ الدولة اللبنانية الدبلوماسي.
يؤكّد كلام أمين سلام، وزير الصناعة في حكومة نجيب ميقاتي المستقيلة، أخيراً، عمق الانهيار اللبناني، وحقيقة أن طبقة حاكمة شبيهة ونظامًا كالسائد هما خلف إنتاج كل هذه العلّل والقيح والأزمات، فقد تخطّى سلام كل أدبيات التخاطب بين الدول، بعد أن سمح لنفسه بارتكاب مجموعة أخطاء قد تؤدّي إلى أزمة دبلوماسية مع الكويت، على غرار التي أعقبت تصريحات أدلى بها غيره من الوزراء قبله، خصوصًا جورج قرداحي وشربل وهبة.
اللافت في تصريح سلام أنه لم يكتفِ بسياسة "التسوّل" باسم الشعب اللبناني، والتي لم تعد تقنع أيًا من الدول التي أدركت أن المنح والمساعدات تذهب لحسابات الزعامات والنواب والوزراء من أصحاب الساعات الفارهة، قبل أن تلبّي الأمور الحياتية والضرورية المزعومة للناس. بل ذهب إلى أبعد من ذلك حين تخطّى الكلام السياسي وصلاحيات وزارة الخارجية، وصلاحيات رئاسة الحكومة، وأصول التخاطب الإعلامي الرسمي، وتخطّى الأعراف والبروتوكولات والقنوات الدبلوماسية المعتمدة في علاقات التعاون بين الدول، وتدخّل في شؤون الدولة الكويتية، كاشفًا عن معرفته أن في صندوق التنمية الكويتي ما يكفي من المال لينتشل لبنان، "وبشحطة قلم"، من مآزق الجوع وافتقار المخزون الاستراتيجي للغذاء، مستجديًا توظيفه في إعادة بناء صوامع القمح التي كانت قد بنتها الكويت عام 1969، بعد أن تهدمت جرّاء انفجار مرفأ بيروت في أغسطس/ آب 2020.
لربما ظنّ سلام أن في استطاعته إحراج الكويت من باب تحميلها مسؤولية الشعب اللبناني، في حين أن القوى المسيطرة في لبنان، والتي شكّلت الحكومة التي يتوزّر فيها، تستهتر بكل الملفات والاستحقاقات المصيرية، وتنهب الموارد الطبيعية والأموال والمنح والمساعدات، وتنتظر من الدول الأخرى القيام عنها بواجباتها تجاه الشعب اللبناني. الخفّة المتراكمة في ممارسة السلطة، وفي إدارة شؤون لبنان، ضربت كل المعايير، ما سمح بوصول نماذج تعتقد أن الاستهتار والشخصانية التي يمارس فيها الزعماء اللبنانيون طريقة قيادة البلاد، واتخاذ القرارات المصيرية فيه، وتخطّي الصلاحيات، "بشحطة قلم" وعلى فنجان قهوة أو غداء عمل أو في جلسة ثنائية أو سهرة... إلخ، وتتم ترجمتها بمدّ اليد على الأموال العامة، وإدارة البلاد بالتهديد والوعيد والتعطيل والوقاحة والإحراج، واعتماد كل شخصانية ومصلحية في الحكم، وتخطّي الدستور والقوانين والأصول وكل آليات العمل المؤسّساتي، هي ذاتها التي تسود في دولة الكويت، بحيث يمكن تسجيل المواقف بناءً على الثرثرة، ويمكن تحويل الأموال بقرار شخصي، لا بممارسة قانونية وديموقراطية تنشأ عبر فصل السلطات وتعاونها، وعلى القوانين التي تجيز للحكومات أو لا تجيز تحويل الأموال والتصرف بأموال الشعب! وهو ما استدعى ردودًا قاسية من مختلف الجهات الكويتية، لأنه تدخّل في شؤن الدولة، واستخفاف بها وبكيفية إدارتها واتخاذ القرارات فيها، والتي لا يمكن أن تُعالج بتوضيح من هنا أو من هناك.
القوى المسيطرة في لبنان، والتي شكّلت الحكومة تستهتر بكل الملفات والاستحقاقات المصيرية
لا يعني الكلام أعلاه أن الوزير سلام من ضحايا الطبقة الحاكمة ونظامها. بل هو ضحية ارتضت بغرورها أن تمارس هواياتها في الاستخفاف بالآخرين، وفي التضحية بمصالحهم، وفي الانزلاق إلى تخطّي كل اللياقات. فالرجل، كما أغلبية الموظفين والوزراء والنواب، يكشف عن الكيفية التي تتم عملية ملء الشواغر بها، بناءً على العلاقات الشخصية والهوية الطائفية في التوزير، وليس أبدًا معايير الكفاءة. لكن ذلك لا يخفّف من جسامة ما ارتكبه، ولا يُعفيه من المسؤولية بقدر ما يضعه أمام الإخفاق في مسؤولية تاريخية لإدارة وزارةٍ كهذه في فترة شديدة الحراجة من عمر الدولة، فمن أرتضى أن يكون في هذا الموقع لا يشمله أي عفو، ولا يمحو أخطاءه المباشرة وغير المباشرة أي توضيح، سيما وأن المهمة الوحيدة التي يجب أن ينجزها أي وزير اليوم هي العمل مع الحكومة على اتخاذ خطوات إجرائية لناحية الكشف عن الحقيقة في انفجار مرفأ بيروت، واستعادة الأموال المنهوبة، وإعادة أموال المودعين، ومحاكمة كل من مدّ يده إلى المالين، العام والخاص، انطلاقًا من الوزارة التي يتولاها. وفوق هذه وتلك إظهار نوع من الجديّة والرزانة في اعتماد سياسات إصلاحية استثنائية وشفافة وملموسة تحتاجها البلاد للخروج من المأزق القابعة فيه، وتعيد ثقة الدول قبل إرسالها المساعدات بالتسوّل أو بالإحراج، أو بالتدخّل في شؤونها... إلخ.
هي ليست المرّة الأولى التي تتكرّر مثل هذه الأخطاء فيها، إذ لم يكد الشعب اللبناني ينسى أن الوفود التي تفاوض صندوق النقد الدولي كانت تذهب، بطائراتها الخاصة، وبحفاوتها المعهودة، وبأرقامها ولوائحها المتفاوتة، في حين كانت الوفود التي تبحث في كيفية مساعدة لبنان تستخدم الرحلات التجارية والتذاكر الاقتصادية، ما استدعى تعبيرها عن امتعاضها مما شاهدته، ومن الخفّة التي تتعامل بها الوفود الرسمية اللبنانية في ملفّات تتعلق بدولة تعاني من أحد أخطر الانهيارات التي يشهدها العالم منذ قرن ونصف القرن. وينزع هذا التكرار صفة الخطأ عن الأفعال، بل يوضّح طريقة إدارة غير مسؤولة للدولة تمارسها طبقةً حاكمة مستهترة بشؤون الشعب وأصول ممارسة السلطة والتخاطب والعمل الدبلوماسي، طبقة أمراء الحرب التي لا تهمها إلا مصالحها والهويات الطائفية للموظفين، وتحاول تحقيق مصالحها بإعادة انتاج نظام وصيغة لا ينتجان إلا الأزمات والتعطيل والأمراض، وكل وصمات العار الدبلوماسي التي يمكن أن تسجّل في تاريخ الدول.