نظم تحاور نفسها
تشهد بعض الدول العربية، على التوازي، مبادراتٍ للحوار بين السلطة والمعارضة، أو بين القوى ومكونات الحياة السياسية. وهي الدول التي مرّت بموجة "الربيع العربي" قبل عشر سنوات. فبالنظر إلى كل من اليمن وسورية وليبيا وتونس ومصر والسودان، نجد أنها جميعاً تعرّضت لتلك الموجة، وأخفقت جميعها أيضاً فيما سعت شعوبها إلى تحقيقه.
ورغم التفاوت والخصوصية التي تميز كل حالةٍ عن الأخرى، زمنياً وموضوعياً، إلا أنها، في اللحظة الراهنة، تشهد نوعاً من التهدئة أو الهدنة بين أطراف معادلة القوة (السياسية وغيرها) الخاصة بكل منها. سواء للعجز عن حسم الصراع على السلطة بالقوة، كما هو حاصل في ليبيا وسورية واليمن، أو لأن القوة استخدمت بالفعل واستنفدت غرضها الأساس، وصار التخفف منها ضرورةً تفرضها معطيات الداخل وتوازنات الخارج، وهذا هو الوضع تحديداً في مصر والسودان.
في المحصلة، لم يشهد العرب، لا في الماضي ولا في الحاضر، حالة واحدة لحوار داخلي حقيقي، بإرادة حرّة ورغبة طوعية من جميع أطرافه، خصوصاً التي تمسك بتلابيب السلطة، أو على الأقل تملك القوة الأكبر، أياً كانت مقوماتها. والمعنى المباشر لذلك أن تلك الأنماط من الحوارات الاضطرارية تفتقر كليا إلى حسن النية وصدق الإرادة في الخروج منها بنتائج توافقية، وخرائط طرق لإصلاح الأحوال المعوّجة.
لذا، يمكن بسهولة رصد اختلالات جوهرية تضرب مسبقاً أي نتائج محتملة لتلك الحوارات، منها فرض أجندات ضيقة بقضايا جزئية وشكلية، وانتقاء القوى أو التيارات، بل والشخصيات المشاركة في تلك الحوارات. والدافع، بالطبع، هو التحكّم في النتائج مسبقاً، فلكل طرفٍ موقف وأجندة ومطالب محدّدة. ولا يمكن حرمان أي طرفٍ من كل مطالبه، لذا الأسهل دائماً، من وجهة نظر السلطة ودوائرها، إغلاق الباب، من البداية، لتجنب تقديم أي تنازلات جوهرية أو غير مطلوبة. ويتجلّى هذا الخلل بوضوح في الحالة المصرية، فدعوة السلطة في مصر إلى الحوار كانت اضطرارية، بل شبه إجبارية. وما إن بدأت بعض القوى والتيارات طرح القضايا الخلافية والمطالب الحوارية، إلا وسارعت السلطة إلى وقف الحملة الإعلامية المصاحبة للدعوة، والتعتيم على أي طروحاتٍ أو اقتراحاتٍ تخرج عن نطاق القضايا الشكلية التي وضعتها السلطة مسبقاً.
وتكرّر الأمر نفسه في السودان، حيث بادر مجلس السيادة إلى طرح دعوة منقوصة، كان يعلم مسبقاً أنها لن تحظى بقبول واسع، خصوصاً لدى الثوريين، وتحديداً قوى الحرية والتغيير. وفي تونس، يقوم الرئيس قيس سعيّد بإجراءات انفرادية، تدمر كل معنى للديمقراطية، وتكرّس سيطرته على مفاصل الحكم، ثم يدعو، بعد إتمام كل خطوةٍ، إلى حوار ونقاش حولها. ثم يتهم من يرفض الحوار، مثل اتحاد الشغل، بالتمرّد والانقلاب على الديمقراطية!
أما في ليبيا واليمن، فمصادر تدمير الحوار مختلفة، حيث اقتصرت اللقاءات المباشرة على متطلبات التنسيق الأمني، وفي أضيق الحدود. فيما لم يبدأ الحوار السياسي المباشر بسبب التعارض الكامل والتناقض بين أطرافه في المصالح والأهداف، إلى حد أن بعض تلك الأطراف تزعم قبول الحوار، بينما هي لا تريد له النجاح ولا الانعقاد أصلاً. ولهذا يتهرّب الحوثيون من أي حوارات مباشرة مع السلطة الشرعية أو مع التحالف العربي. وكذلك الأمر من خليفة حفتر وبعض قبائل شرق ليبيا، فهم يجارون البعثة الأممية ظاهرياً، بينما ينسفون فعلياً إمكانية تنفيذ أيٍّ من التفاهمات التي يجري التوصل إليها.
الثابت الوحيد في كل تلك الحوارات إصرار القوى العسكرية، وكذلك نظم الحكم (وهي بالمصادفة عسكرية أيضاً) على احتكار السلطة حصرياً، وإقصاء المجتمع وكل القوى الأخرى منها. وهو سلوك منطقي تماماً، فمن جُبل على طاعة الأوامر وعدم التفكير لا يمكن أن يقبل بالحوار، إلا تظاهراً وادّعاء.