نعم... عَقَبة
ويبقى الشعبُ العربي العقبةَ الحقيقيةَ أمام مشاريع التطبيع الحكومية العربية كلّها مع دولة الكيان الصهيوني، منذ أوّل محاولة على هذا الصعيد.
كثيرةٌ جدّاً الدماء التي سالت في طريق مناهضة التطبيع، لكنّها لم تذهب هدراً، حتّى إن ظنّ بعض الناس (ربّما بحسن نيّةً) أنّها كذلك. فكلّ عملية نضالية فردية بادر إليها مواطن عربي مؤمن بقضية فلسطين، انتصاراً لهذه القضية، ومساندةً للفلسطينيين في نضالهم المستمرّ، هي عقبة في وجه الحكومات العربية، التي أقامت علاقات مع الصهاينة، أو تُخطّط لذلك مستقبلاً.
ما فعله قبل أيّام الأردني ماهر الجازي، الذي استشهد برصاص إسرائيلي بعد أن قتل ثلاثةَ عناصر أمن إسرائيليين في معبر الكرامة الحدودي، وقبله ما فعله المصري محمد صلاح في عملية مشابهة (وغيرهما من أبناء الأمّة رحمهم الله وتقبّلهم شهداءً)، يعكس حقيقةً عميقةً لا يمكن تجاهلها؛ الرفض الشعبي الجادّ والمستمرّ للوجود الصهيوني في الأرض العربية. فرغم محاولات بعض الحكومات العربية الاعترافَ بهذا الكيان والتطبيع معه، ظلّ موقف الشعوب ثابتاً ومتمسّكاً بفلسطين، وبالحقّ العربي التاريخي فيها، والدلائل على ذلك كثيرة.
صحيح أنّ هناك حكومات عربية وقّعت معاهداتٍ سمّتها معاهدات سلام مع الكيان الصهيوني، وصحيح أنّ سنوات كثيرة مرّت على هذه المعاهدات التي وقّعت برعاية مباشرة من القوى العظمى في العالم، وعلى رأسها الولايات المتّحدة، إلّا أنّها بقيت دائماً في نظر الشعوب مُجرَّد حبر على ورق، سرعان ما تهترئ وتختفي، لتبقى الحقيقة الكبيرة الواضحة؛ فلسطين أرض عربية محتلّة، وإسرائيل مُجرَّد كيان صهيوني طارئ في تاريخ المنطقة، وجغرافيتها أيضاً، ولا بدّ له من الزوال عاجلاً أو آجلاً.
والشعوب العربية بقيت دائماً تحمل في وجدانها مشاعرَ الرفض لمحاولات استسلام أو تقارب مع الصهاينة، مع الإصرار على التمسّك بالحقوق الفلسطينية، وهذا ما يتجلّى في المواقف الشعبية، التي تظهر في الأوقات الحرجة. لقد أثبتت العديد من العمليات البطولية، مثل ما قام به الشهيد ماهر الجازي أخيراً، أنّ الرفض الشعبي لا يزال قوياً، وأنّ أيّ وجود للصهاينة في أيّ أرض عربية وجودٌ غيرَ مرحّبٍ به. فهذه العمليات ليست مُجرَّد ردّات فعل مفاجئة على العدوان الإسرائيلي على أهلنا في غزّة منذ "طوفان الأقصى"، بل هي تعبير عن إرادة الشعب العربي في استعادة حقوقه ورفض الظلم، منذ الاحتلال وحتّى التحرير، بإذن الله تعالى، كما أنّها رسالةٌ مُوقَّعةٌ بالدماء بجدّية الرفض الشعبي لسياسات التطبيع الحكومية، ومحاولة ترويجها، وإقناع الآخرين بها.
والغريب أنّ الحكومات العربية، التي أقامت علاقات مع دولة الاحتلال، ما زالت مؤمنةً (كما يبدو) بأنّ التطبيع قادم، في حين أنّ الحكومة الإسرائيلية كانت دائماً تدرك أنّ التطبيع مع العرب لن ينجح ما لم يكن هناك قبول شعبي له. هذا ما أكّده رئيس وزرائهم بنيامين نتنياهو عندما قال قبل سنواتٍ إنّ الشعوب العربية هي العقبة أمام التطبيع. فرغم محاولات الحكومات العربية والإسرائيلية، التي وقّعت المعاهدات، خلق مناخاتٍ مناسبةٍ للتطبيع، إلّا أنّ هذه الجهود غالباً ما تصطدم بجدار الرفض الشعبي مهما كانت المُغريات. وهذا ما تُؤكّده تلك العمليات الاستشهادية بين وقت وآخر. فعملية الشهيد ماهر الجازي ليست الأولى، وبالتأكيد لن تكون الأخيرة، ما دام الاحتلال باقٍ، وما دامت فلسطين محتلّةً، أمّا العدوان على غزّة فليس سوى تذكير بأنّ ما تسمّيه إسرائيل بـ"السلام" ليس سوى أكذوبة يراد من الشعوب العربية أن تخضع لها وتنسى فلسطين. لكن هيهات... سيبقى الرفض الشعبي هو الصخرة التي تتكسّر عليها جميع محاولات التطبيع.