نكبة الفسابكة ونكبة البرامكة
يبكي مشاهيرُ كثيرون مُلكهم الزائل في "فيسبوك" بكاء ذي القروح مُلك أبيه، وينعون حجب منشوراتهم، لقد "أمّم" الملك مارك الملكية، وختم بعض الحسابات بالشمع البرتقالي، وفرض على كثيرين من أمراء رعيته الإقامة الجبرية.
حذّرني صديقٌ، مبكّراً، من حُمّى "فيسبوك"، ومن بريق "اللايكات" الذي يذهب بالأبصار والأفئدة، والتي لم ينجُ من سحرها إلا أولو العزم، ورأيت أشرافًا من الناس يبوحون بأخصّ أسرارهم، حتى إنهم يجلون للعامّة نجوى النفس وحديث الروح، ويعرضون لهم أطعمتهم وصورهم مع أخصّ أهليهم، ويكشفون للناس ما لا يكشفونه للمخابرات تحت التعذيب، أو للكاهن المسيحي في غرفة الاعتراف، إنَّ هذا لهو البلاء المبين.
صحيحٌ أننا كسبنا أصدقاء من بلاد بعيدة، لكننا خسرنا جيرانَنا ومعارفنا بعد أن كشفنا سرائرنا، وأظهرنا معتقداتنا السياسية والدينية، وكان الله قد ستَرنا، فالأرض في "فيسبوك" زلقة، والصفحة مغوية بالنشر، وإعجاب "فيسبوك" لا يروي الظمأ ولا يشفي الغليل، فهو مثل المياه المالحة، كلما ذقتَه طلبت المزيد.
رأينا مرة صورة "لملكنا" في ديار فسبوك مارك وهو يزور مع أهله مزرعة أبقار، فعلق أحد الظرفاء بقوله: يستمتع بالحياة الطبيعية ويبيعنا لايكات في البحر.
كان أهم أسباب انتصار الملوك المعاصرين ودوام مُلكهم هو معرفةُ أسرار شعوبهم، وقد اطّلع مارك وجيشه من العاملين في فيسبوك على أخصّ أسرار رعيته على العام والخاص من غير تعذيب في مسالخ السجون، أو مغفرة في غرف الاعتراف، فنحن نعرضها على الناس متطوّعين من أجل حفنة لايكات لا طعم لها، وإن كان لها ألوان كثيرة، بل إنَّ تقارير إخبارية أميركية ذكرت أنَّ مارك باع بيانات رعيته في الانتخابات الأميركية، بل بلغ من قوة وسائل التواصل الاجتماعي أنّها أزرَت بالصحف، فكسدت بضاعتها.
وكانت سوق "فيسبوك" من أشيع وسائل التواصل الاجتماعي في سورية ومصر، فالصحف تقدّم مقالات رصينة وطويلة، وتنتظر أياماً للتحقّق من مصدرها وصدقها، بينما تعرض "فيسبوك" أخبار الناس في حينها، وتنشرها حيّة، نابضة، وأكاذيب كثيرة، من غير انتظار وتحقيق وأختام وتواقيع، ما جعل أخبار الصحف قديمة.
"فيسبوك" جريدة واسعة بلا صفحة أولى أو أخيرة، وتعرض على المتسوّق مقابل وقته ملايين القصص، بل إنّ الكاتب لم يعد يُقرأ إلا بعد أن ينشر مقالته على "فيسبوك" أو "تويتر"، واستغنى الناس عن التلفزيونات الفضائية التي صارت مملة، وما لبثنا إلا قليلًا حتى تقوّضت عروش فسبوك أيضاً، فباتت سوقاً قديمة، وانحسر مُلك مشاهيرها، فصدَق فيها الأثر القائل "ما رفع الله شيئًا إلا وضعه"، وشكا أكثر نجوم "فيسبوك" الحجب وقطع الأرحام الافتراضية، وبناء الجدران العازلة، وهذا دأبُ الطغاة، فهم يريدون رعية أسيرة وشفافة مثل أسماك السرمان، يُرى حتى طعامها في بطنها، فنزح أكثر الناس منها إلى ديار جديدة، مثل إنستغرام وتيك توك ويوتيوب.. وهي أوسع، وأقل شرطة، وألطف أحكاماً عرفية، وأزكى قوانين طوارئ.
أما سبب إفراط الناس في المنشورات، فهو أنهم في وسائل التواصل عُميان أو أشبه بالعميان. لا يرى الناشر الناس، ويرونه، فهو كالأعمى... وَقيل لأبى العيناء: وَيحك مَا أوقحك، فَقَالَ: أما علمت أَنَّ للحياء شَرَائِط لَيست معي وَاحِدَة مِنْهُنَّ، قيل: فصفهن قَالَ: أولهنَّ في الْعَينَيْنِ. فالمرء ينشر على حسابه ما يشاء؛ طعامه والناس جياع، يسوق سيارته، يراقص زوجته، يشاتم خصومه، ولا يرتوي من الاستعراض، والتفاخر عرياناً، وليس في "فيسبوك" أوراق توت للسترة.
لقد حولونا إلى أطفال، نغضب بسرعة، نحبُّ بسرعة، ونكره بسرعة. وآن آوان الرحيل عن مرابع الطفولة في ديار "فيسبوك".
أَقفَرَ مِن أَهلِهِ فيسبوك/ وَكُلُّ مَن حَلَّها مَحروبُ.